الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ وَوَصَّيْنَا ٱلإِنسَانَ بِوَٰلِدَيْهِ إِحْسَاناً حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً وَحَمْلُهُ وَفِصَٰلُهُ ثَلٰثُونَ شَهْراً حَتَّىٰ إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِيۤ أَنْ أَشكُرَ نِعْمَتَكَ ٱلَّتِيۤ أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَىٰ وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَٰلِحاً تَرْضَٰهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِيۤ إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ ٱلْمُسْلِمِينَ }

{ وَوَصَّيْنَا ٱلإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَاناً حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاَثُونَ شَهْراً } تطلب بعض المفسرين وجه مناسبة وقوع هذه الآية عقب التي قبلها، وذكر القرطبي عن القشيري أن وجه اتصال الكلام بعضه ببعض أن المقصود بيان أنه لا يبعد أن يستجيب بعض الناس للنبي صلى الله عليه وسلم ويكفر به بعضهم كما اختلف حال الناس مع الوالدين. وقال ابن عساكر لما ذكر الله التوحيد والاستقامة عطف الوصية بالوالدين كما هو مقرون في غير ما آية من القرآن. وكلا هذين القولين غير مقنع في وجه الاتصال. ووجه الاتصال عندي أن هذا انتقال إلى قول آخر من أقوال المشركين وهو كلامهم في إنكار البعث وجدالهم فيه فإن ذلك من أصول كفرهم بمحل القصد من هذه الآيات قولهوالذي قال لوالديه أف لكما } الأحقاف 17 إلى قولهخاسرين } الأحقاف 18. وصيغ هذا في أسلوب قصة جدال بين والدين مؤمنين ووَلد كافر، وقصة جدال بين ولد مؤمن ووالدين كافرين لأن لذلك الأسلوب وقعا في أنفس السامعين مع ما روي أن ذلك إشارة إلى جدال جرى بين عبد الرحمان بن أبي بكر الصديق قبل إسلامه وبين وَالديه كما سيأتي. ولذلك تعيّن أن يكون ما قبله توطئة وتمهيداً لذكر هذا الجدال. وقد روى الواحدي عن ابن عبّاس أن قولهووصينا الإنسان بوالديه إحساناً } الأحقاف 15 إلى قولهيوعدون } الأحقاف 16 نزل في أبي بكر الصديق. وقال ابن عطية وغير واحد نزلت في أبي بكر وأبيه أبي قحافة وأمه أم الخير أسلم أبواه جميعاً. وقد تكررت الوصاية ببر الوالدين في القرآن وحرض عليها النبي صلى الله عليه وسلم في مواطن عديدة فكان البر بالوالدين أجلى مظهراً في هذه الأمة منه في غيرها وكان من بركات أهلها بحيث لم يبلغ بر الوالدين مبلغاً في أمة مبلغه في المسلمين. وتقدمووصينا الإنسان بوالديه حسنا } في سورة العنكبوت 8. والمراد بالإنسان الجنس، أي وصينا الناس وهو مراد به خصوص الناس الذين جاءتهم الرسل بوصايا الله والذين آمنوا وعملوا الصالحات وذلك هو المناسب لقوله في آخرهاأولئك الذين يتقبل عنهم أحسن ما عملوا } الأحقاف 16 الآية. وكذلك هو فيما ورد من الآيات في هذا الغرض كما في سورة العنكبوت وفي سورة لقمان بصيغة واحدة. والحُسن مصدر حَسُن، أي وصيناه بحُسن المعاملة. وقرأه الجمهور كذلك. وقرأه عاصم وحمزة والكسائي وخلف { إحسانا }. والنصب على القراءتين إما بنزع الخافض وهو الباء وإما بتضمين { وصيْنَا } معنى ألزمنا. والكره بفتح الكاف وبضمها مصدر أكره، إذا امتعض من شيء، أي كان حمله مكروهاً لها، أي حالة حمله وولادته لذلك. وقرأ الجمهور { كَرها } في الموضعين بفتح الكاف. وقرأه عاصم وحمزة والكسائي وابن ذكوان عن ابن عامر ويعقوب بضم الكاف في الموضعين.

السابقالتالي
2 3 4 5