الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ إِنَّ فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ لأيَٰتٍ لِّلْمُؤْمِنِينَ } * { وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِن دَآبَّةٍ ءَايَٰتٌ لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ } * { وَٱخْتِلاَفِ ٱللَّيْلِ وَٱلنَّهَارِ وَمَآ أَنَزَلَ ٱللَّهُ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَّن رِّزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ ٱلأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ ٱلرِّيَاحِ ءَايَٰتٌ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ }

موقع هذا الكلام موقع تفصيل المجمل لما جمعته جملةتنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم } الجاثية 2 باعتبار أن آيات السماوات والأرض وما عطف عليها إنما كانت آيات للمؤمنين الموقنين، وللذين حصل لهم العلم بسبب ما ذكرهم به القرآن، ومما يؤيد ذلك قوله تعالىتلك آيات الله نتلوها عليك } الجاثية 6.وأكد بــ { إنَّ } وإن كان المخاطبون غير منكريه لتنزيلهم منزلة المنكر لذلك بسبب عدم انتفاعهم بما في هذه الكائنات من دلالة على وحدانية الله تعالى وإلا فقد قال الله تعالىولئن سألتهم من خَلَق السماوات والأرض ليقولُن خلقهنّ العزيز العليم } في سورة الزّخرف 9.والخطاب موجه إلى المشركين ولذلك قال { لآيات للمؤمنين } وقال { آيات لقوم يوقنون } دون أن يقال لآيات لكم أو آيات لكم، أي هي آيات لمن يعلمون دلالتها من المؤمنين ومن الذين يوقنون إشارة إلى أن تلك الآيات لا أثر لها في نفوس من هم بخلاف ذلك. والمراد بكون الآيات في السماوات والأرض أن ذات السماوات والأرض وعداد صفاتها دلائل على الوحدانية فجعلت السماوات والأرض بمنزلة الظرف لما أودعته من الآيات لأنها ملازمة لها بأدنى نظر وجعلت الآيات للمؤمنين لأنهم الذين انتفعوا بدلالتها وعلموا منها أن موجدها ومقدر نظامها واحد لا شريك له.وعطف جملة { وفي خلقكم } الخ على جملة { إن في السماوات والأرض لآيات للمؤمنين } عطف خاص على عام لما في هذا الخاص من التذكير بنعمة إيجاد النوع استدعاء للشكر عليه.والبث التوزيع والإكثار وهو يقتضي الخلق والإيجاد فكأنه قيل وفي خلق الله ما يبثّ من دابة. وتقدم البث في قوله تعالىوبث فيها من كل دابّة } في سورة البقرة 164.وعبر بالمضارع في { يبث } ليفيد تجدد البث وتكرره باعتبار اختلاف أجناس الدواب وأنواعها وأصنافها. والدابة تطلق على كل ما يدبّ على الأرض غير الإنسان وهذا أصل إطلاقها وقد تطلق على ما يدب بالأرجل دون الطائر كقولهوما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه } الأنعام 38.والرزق أطلق هنا على المطر على طريقة المجاز المرسل لأن المطر سبب وجود الأقوات. والرزق القوت. وقد ذكر في آية سورة البقرة 164وما أنزل الله من السماء من ماء } وتقدمت نظائر هذه الآية في أواسط سورة البقرة وفي مواضع عدّة.والمراد بــالمؤمنين، وبـقوم يوقنون، وبــقوم يعقلون واحد، وهم المؤمنون بتوحيد الله فحصل لهم اليقين وكانوا يعقلون، أي يعلمون دلالة الآيات.والمعنى أن المؤمنين والذين يُوقنون، أي يعلمون ولا يكابرون، والذين يعقلون دلالة الآثار على المؤثر ونظروا النظر الصحيح في شواهد السماوات والأرض فعلموا أن لا بد لها من صانع وأنه واحد فأيقن بذلك العاقل منهم الذي كان متردداً، وازداد إيماناً من كان مؤمناً فصار موقناً. فالمعنى أن الذين انتفعوا بالآيات هم المؤمنون العاقلون، فوزعت هذه الأوصاف على فواصل هذه الآي لأن ذلك أوقع في نفس السامع من إتْلاَءِ بعضها لبعض.

السابقالتالي
2