الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ أَمْ حَسِبَ ٱلَّذِينَ ٱجْتَرَحُواْ ٱلسَّيِّئَاتِ أَن نَّجْعَلَهُمْ كَٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ سَوَآءً مَّحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَآءَ مَا يَحْكُمُونَ }

انتقال من وصف تكذيبهم بالآيات واستهزائهم بها ثم من أمر المؤمنين بالصفح عنهم وإيكال جزاء صنائعهم إلى الله ثم من التثبيت على ملازمة الشريعة الإسلامية إلى وصف صنف آخر من ضلالهم واستهزائهم بالوعد والوعيد وإحالتهم الحياة بعد الموت والجزاءَ على الأعمال وتخييلهم للناس أنهم يصيرون في الآخرة، على الحال التي كانوا عليها في الدنيا، عظيمهم في الدنيا عظيمهم في الآخرة، وضعيفهم في الدنيا ضعيفهم في الآخرة، وهذا الانتقال رجوع إلى بيان قولهمن عمل صالحاً فلنفسه ومن أساء فعليها ثم إلى ربّكم ترجعون } الجاثية 15.فحرف { أم } للإضراب الانتقالي، والاستفهام الذي يلزم تقديره بعد { أمْ } استفهام إنكاري، والتقدير لا يحسب الذين اجترحوا السيئات أنهم كالذين آمنوا لا في الحياة وفي في الممات. و { الذين اجترحوا السيئات } في نقل عن ابن عباس أنهم المشركون كما يؤذن به الانتقال من الغرض السابق إلى هذا الغرض وإنما عبر عنهم بهذا العنوان لما في الصلة من تعليل إنكار المشابهة والمساواة بينهم وبين الذين آمنوا وعملوا الصالحات عند الله في عالم الخلد ولأن اكتساب السيئات من شعار أهل الشرك إذ ليس لهم دين وازع يزعهم عن السيئات ولا هم مؤمنون بالبعث والجزاء، فيكون إيمانهم به مرغباً في الجزاء، ولذلك كثُر في القرآن الكناية عن المشركين بالتلبس بالسيئات كقولهويلٌ للمطففين } المطففين 1 إلى قولهألاَ يظن أولئك أنهم مبعوثون ليوم عظيم } المطففين 5 وكقولهما سلككم في سقر قالوا لم نك من المصلين ولم نك نطعم المسكين وكنا نخوض مع الخائضين وكنا نكذب بيوم الدين } المدثر 42 ـــ 46 وقولهأرأيت الذي يكذب بالدين فذلك الذي يدعّ اليتيم ولا يحضّ على طعام المسكين } الماعون 1 ـــ 3 ونظيرهأم حسب الذين يعملون السيئات أن يسبقونا ساء ما يحكمون } العنكبوت 4، فإن ذلك حال الكفار، وأما المؤمن العاصي فلا تبلغ به حاله أن يحسب أنه مفلت من قدرة الله. قيل نزلت في قوم من المشركين. قال البغوي نزلت في نفر من مشركي مكة قالوا للمؤمنين لئن كان ما تقولون حقاً لنفضلنّ عليكم في الآخرة كما فضّلنا عليكم في الدنيا. وعن الكلبي أن عتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة والوليد بن عتبة قالوا لعلي وحمزة وبعض المسلمين والله ما أنتم على شيء ولئن كان ما تقولون حقاً أي إن كان البعث حقاً لحالنا أفضل من حالكم في الآخرة كما أنّا أفضل حالاً منكم في الدنيا. وتأويل نزول هذه الآية على هذا السبب أن حدوث قول هؤلاء النفر صادف وقت نزول هذه الآيات من السورة أو أن قولهم هذا متكرر فناسب تعرض الآية له حقه.ونزول الآية على هذا السبب لإبطال كلامهم في ظاهر حاله وإن كانوا لم يقولوه عن اعتقاد وإنما قالوه استهزاء، لئلا يروج كلامهم على دهمائهم وَالحديثين في الإسلام لأن شأن التصدّي للإرشاد أن لا يغادر مغمزاً لرواج الباطل إلا سدّه، كما في قوله تعالى

السابقالتالي
2 3