الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ وَلَمَّا جَآءَ عِيسَىٰ بِٱلْبَيِّنَاتِ قَالَ قَدْ جِئْتُكُم بِٱلْحِكْمَةِ وَلأُبَيِّنَ لَكُم بَعْضَ ٱلَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَأَطِيعُونِ } * { إِنَّ ٱللَّهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَٱعْبُدُوهُ هَـٰذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ }

قد علمت آنفاً أن هذا هو المقصود من ذكر عيسى عليه السلام فهو عطف على قصة إرسال موسى.ولم يذكر جواب { لمّا } فهو محذوف لدلالة بقية الكلام عليه. وموقع حرف { لمّا } هنا أن مجيء عيسى بالبينات صار معلوماً للسامع مما تقدم في قولهإن هو إلا عبد أنعمنا عليه وجعلناه مثلاً لبني إسرائيل } الزخرف 59 الآية، أي لما جاءهم عيسى اختلف الأحزاب فيما جاء به، فحذف جواب { لما } لأن المقصود هو قولهفويلٌ للذين ظلموا من عذاب يومٍ أليمٍ } الزخرف 65 لأنه يفيد أن سَنن الأمم المبعوث إليهم الرسل لم يختلف فإنه لم يخل رسول عن قوم آمنوا به وقومٍ كذبوه ثم كانوا سواءً في نسبة الشركاء في الإلـٰهية بمزاعم النصارى أن عيسى ابن لله تعالى كما أشار إليه قولهفويل للذين ظلموا } الزخرف 65 أي أشركوا كما هو اصطلاح القرآن غالباً. فتم التشابه بين الرسل السابقين وبين محمد صلى الله عليهم أجمعين، فحصل في الكلام إيجاز تدل عليه فاء التفريع.وفي قصة عيسى مع قومه تنبيه على أن الإشراك من عوارض أهل الضلالة لا يلبث أن يخامر نفوسهم وإن لم يكن عالقاً بها من قبل، فإن عيس بُعث إلى قوم لم يكونوا يدينون بالشرك إذ هو قد بعث لبني إسرائيل وكلهم موحّدونَ فلما اختلف أتباعه بينهم وكذبت به فِرق وصدقه فريق ثم لم يتبعوا ما أمرهم به لم يلبثوا أن حدثت فيهم نحلة الإشراك.وجملة قال { قد جئتكم بالحكمة } مُبَيّنَةٌ لجملة { جاء عيسى بالبينات } وليست جواباً لشرط { لما } الذي جعل التفريع في قولهفاختلف الأحزاب من بينهم } مريم 37 دَليلاً عليه. وفي إيقاع جملة { قد جئتكم بالحكمة } بياناً لجملة { جاء عيسى بالبينات } إيماء إلى أنه بادَأهم بهذا القول، لأن شأن أهل الضلالة أن يسرعوا إلى غاياتها ولو كانت مبادىءُ الدعوة تنافي عقائدهم، أي لم يَدْعُهم عيسى إلى أكثر من اتباع الحكمة وبيان المختلَف فيه ولم يدْعهم إلى ما ينافي أصول شريعة التوراة ومع ذلك لم يخل حاله من صدود مريع عنه وتكذيب.وابتداؤه بإعلامهم أنه جاءهم بالحكمة والبيان وهو إجمال حال رسالته ترغيبٌ لهم في وعْي ما سيلقيه إليهم من تفاصيل الدعوة المفرع بعضها على هذه المقدمة بقوله { فاتقوا الله وأطيعون إن الله هو ربّي وربّكم فاعبدوه }.والحكمة هي معرفة ما يؤدي إلى الحسن ويكفّ عن القبيح وهي هنا النبوءة، وقد تقدم الكلام عليها عند قوله تعالىيؤتي الحكمة من يشاء } في سورة البقرة 269. وقد جاء عيسى بتعليمهم حقائق من الأخلاق الفاضلة والمواعظ.وقوله { ولأُِبيّنَ لكم } ، عطف على { بالحكمة } لأن كليهما متعلّق بفعل { جئتكم }. واللام للتعليل. والتبيين تجلية المعاني الخفيّة لِغموض أو سوء تأويل، والمراد ما بيّنه عيسى في الإنجيل وغيره مما اختلفت فيه أفهام اليهود من الأحكام المتعلقة بفهم التوراة أو بتعيين الأحكام للحوادث الطارئة.

السابقالتالي
2