الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ وَلَوْلاَ أَن يَكُونَ ٱلنَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَّجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بِٱلرَّحْمَـٰنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِّن فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ } * { وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَاباً وَسُرُراً عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ } * { وَزُخْرُفاً وَإِن كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا وَٱلآخِرَةُ عِندَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ }

{ ولولا } حرف امتناع لوجود، أي حرف شرط دلّ امتناع وقوعِ جوابها لأجل وقوع شرطها، فيقتضي أن الله أراد امتناع وقوع أن يكون الناس أمة واحدة، أي أراد الاحتراز من مضمون شرطها.لما تقرر أن مِن خُلُقهم تعظيمَ المال وأهل الثراء وحُسْبانَهم ذلك أصل الفضائل ولم يَهتموا بزكاء النّفوس، وكان الله قد أبطل جعلهم المال سبب الفضل بإبطالين، بقولهأهم يقسمون رحمة ربك } الزخرف 32 وقولهورحمت ربك خير مما يجمعون } الزخرف 32، أعقب ذلك بتعريفهم أن المال والغنى لاَ حَظّ لهما عند الله تعالى فإن الله أعطى كل شيء خلقه وجعل للأشياء حقائقها ومقاديرها فكثيراً ما يكون المال للكافرين ومن لا خلاق لهم من الخير، فتعين أن المال قسمة من الله على النّاس جعل له أسباباً نظمها في سلك النظُم الاجتماعية وجعل لها آثاراً مناسبة لها، وشتان بينها وبين مواهب النفوس الزكية والسرائر الطيبة، فالمال في الغالب مصدر لإرضاء الشهوات ومرصد للتفاخر والتطاول. وأما مواهب النفوس الطيّبة فمَصَادرُ لنفع أصحابها ونفع الأمة، ففي أهل الشر أغنياء وفقراء وفي أهل الخير أمثال ذلك، فظهر التباين بين آثار كسب المال وآثار الفضائل النفسانية.ويحصل من هذا التحقير للمال إبطال ثالث لما أسسوا عليه قولهملولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم } الزخرف 31، فهذه الجملة عطف على جملةورحمت ربك خير مما يجمعون } الزخرف 32.والنّاس يحتمل أن يراد به جميع النّاس، فيكون التعريف للاستغراق، أي جميع البشر. والأمة الجماعة من البشر المتميزة عن غيرها باتحاد في نسب أو دين أو حالة معرّف بها فمعنى أن يكون النّاس أمة واحدة يحتمل أن لولا أن يصير البشر على دين واحد وهو الغالب عليهم يومئذٍ، أي الكفر ونبذ الفكرة في الآخرة وعلى هذا تفسير ابن عباس والحسن وقتادة والسدي.فالمعنى عليه لَوْلاَ أن يَصير النّاس كلّهم كفاراً لخصصنا الكافرين بالمال والرفاهية وتركنا المسلمين لِمَا ادّخرنا لهم من خيرات الآخرة، فيحسب ضعفاء العقول أن للكفر أثراً في حصول المال جعله الله جزاء لمن سماهم بالكافرين فيتبعوا دين الكفر لِتخيّلهم الملازمة بين سعادة العيش وبين الكفرِ، وقد كان النّاس في الأجيال الأولى أصحاب أوهام وأغلاط يجعلون للمقارنة حكم التسبب فيؤول المعنى إلى لولا تجنب ما يفضي إلى عموم الكفر وانقراضِ الإيمان، لجعلنا المال لأهل الكفر خاصة، أي والله لا يحب انقراض الإيمان من النّاس ولم يقدِّر اتحاد النّاس على ملة واحدة بقولهولا يزالون مختلفين إلاّ من رحم ربّك ولذلك خلقهم } هود 118، 119 أي أن الله لطف بالعباد فعطّل ما يفضي بهم إلى اضمحلال الهدى من بينهم، أي أبقى بينهم بصيصاً من نور الهدى.ويحتمل وهو الأولى عندي أن يكون التعريف في { الناس } للعهد مراداً به بعض طوائف البشر وهم أهل مكة وجمهورهم على طريقة الاستغراق العرفي وعلى وزان قوله تعالى

السابقالتالي
2 3