الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَّعِيشَتَهُمْ فِي ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضاً سُخْرِيّاً وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ }

إنكار عليهم قولهملولا نزل هذا القرآن على رجلٍ من القريتين عظيم } الزخرف 31، فإنهم لما نصبوا أنفسهم منصب من يتخير أصناف النّاس للرسالة عن الله، فقد جعلوا لأنفسهم ذلك لا لله، فكان من مقتضَى قولهم أن الاصطفاء للرسالة بيدهم، فلذلك قُدّم ضمير { هُمْ } المجعول مسنداً إليه، على مسندٍ فعلي ليفيد معنى الاختصاص فسلط الإنكار على هذا الحصر إبطالاً لقولهم وتخطئة لهم في تحكمهم.ولما كان الاصطفاء للرسالة رحمة لمن يُصطفَى لها ورحمة للنّاس المرسل إليهم، جعل تحكمهم في ذلك قسمة منهم لرحمة الله باختيارهم من يُختار لها وتعيين المتأهل لإبلاغها إلى المرحومين.ووُجِّه الخطاب إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأضيف لفظ الرب إلى ضميره إيماء إلى أن الله مؤيده تأنيساً له، لأن قولهملولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم } الزخرف 31 قصدوا منه الاستخفاف به، فرفع الله شأنه بإبلاغ الإنكار عليهم بالإقبال عليه بالخطاب وبإظهار أن الله ربّه، أي متولي أمره وتدبيره.وجملة { نحن قسمنا بينهم معيشتهم } تعليل للإنكار والنفي المستفاد منه، واستدلال عليه، أي لما قسمنا بين النّاس معيشتهم فكانوا مسيَّرين في أمورهم على نحو ما هيّأنا لهم من نظام الحياة وكان تدبير ذلك لله تعالى ببالغ حكمته، فجَعل منهم أقوياء وضعفاء، وأغنياء ومحاويج، فسخر بعضهم لبعض في أشغالهم على حساب دواعي حاجة الحياة، ورفع بذلك بعضهم فوق بعض، وجعل بعضهم محتاجاً إلى بعض ومُسخّراً به. فإذا كانوا بهذه المثابة في تدبير المعيشة الدّنيا، فكذلك الحال في إقامة بعضهم دون بعض للتبليغ فإن ذلك أعظم شؤون البشر. فهذا وجه الاستدلال.والسخريّ بضم السين وبكسرها وهما لغتان ولم يقرأ في القراءات المشهورة إلا بضم السين. وقرأ ابن محيصن في الشاذّ بكسر السين اسم للشيء المسخر، أي المجبور على عملٍ بدون اختياره، واسمٌ لمن يُسْخَر به، أي يستهزأ به كما في «مفردات» الراغب و«الأساس» و«القاموس». وقد فُسر هنا بالمعنيين كما قال القرطبي. وقال ابن عطية هما لغتان في معنى التسخير ولا تدخُّلَ لمعنى الهُزء في هذه الآية. ولم يَقل ذلك غيره وكلام الراغب محتمل. واقتصر الطبري على معنى التسخير. فالوجه في ذلك أن المعنيين معتبران في هذه الآية. وإيثار لفظ { سخرياً } في الآية دون غيره لتحمُّله للمعنيين وهو اختيار من وجوه الإعجاز فيجوز أن يكون المعنى ليتعمل بعضهم بعضاً في شؤون حياتهم فإن الإنسان مدني، أي محتاج إلى إعانة بعضه بعضاً، وعليه فسّر الزمخشري وابن عطية وقاله السُّدي وقتادة والضحاك وابن زيد، فلام { ليتخذ } لام التعليل تعليلاً لفعل { قسمنا } ، أي قسمنا بينهم معيشتهم، أي أسبابَ معيشتهم ليستعين بعضهم ببعض فيتعارفوا ويتجمعوا لأجل حاجة بعضهم إلى بعض فتتكون من ذلك القبائل والمدن.

السابقالتالي
2