الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ أَمِ ٱتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ وَأَصْفَاكُم بِٱلْبَنِينَ } * { وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُم بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَـٰنِ مَثَلاً ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً وَهُوَ كَظِيمٌ }

{ أم } للإضراب وهو هنا انتقالي لانتقال الكلام من إبطال معتقدهم بنوة الملائكة لله تعالى بما لزمه من انتقاض حقيقة الإلـٰهية، إلى إبطاله بما يقتضيه من انتقاض يُنافي الكمال الذي تقتضيه الإلـٰهية. والكلام بعد { أم } استفهام، وهو استفهام إنكاري كما اقتضاه قوله { وأصفاكم بالبنين }. ومحل الاستدلال أن الإناث مكروهة عندهم فكيف يجعلون لله أبناءً إناثاً وهلاَّ جعلوها ذكوراً. وليست لهم معذرة عن الفساد المنجرّ إلى معتقدهم بالطريقتين لأن الإبطال الأول نظري يقيني والإبطال الثاني جدليّ بديهي قال تعالىألكم الذكر وله الأنثى تلك إذاً قسمةٌ ضيزى } النجم 21، 22. فهذه حجة ناهضة عليهم لاشتهارها بينهم.ولما ادَّعت سَجَاحِ بنتُ الحارث النبوءة في بني تميم أيام الردة وكان قد ادّعى النبوءةَ قبلها مُسَيْلمةُ الحنفي، والأسود العَنْسي، وطُليحة بن خويلد الأسدي، قال عُطاردُ بن حاجب التميمي
أضحت نبيئتُنا أنثى نُطيف بها وأصبحتْ أنبياء النّاس ذكرانا   
وأوثر فعل { اتّخذ } هنا لأنه يشمل الاتخاذ بالولادة، أي بتكوين الانفصال عن ذات الله تعالى بالمزاوجة مع سَرَوات الجنّ، ويشمل ما هو دون ذلك وهو التبنّي فعَلَى كِلا الفَرضين يتوجه إنكارُ أن يكون ما هو لله أدْوَنَ مما هوَ لهم كما قال تعالىويجعلون لله ما يكرهون } النحل 62. وقد أشار إلى هذا قوله { وأصفاكم بالبنين } ، فهذا ارتقاء في إبطال معتقدهم بإبطال فرض أن يكون الله تبنَّى الملائكة، سَدًّا على المشركين بابَ التأول والتنصلِ من فساد نسبتهم البناتِ إلى الله، فلعلّهم يقولون ما أردنا إلا التبني، كما تنصلوا حين دمغتهم براهين بطلان إلـٰهية الأصنام فقالواما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى } الزمر 3، وقالواهؤلاء شفعاؤنا عند الله } يونس 18.واعلم أن ما تُؤذن به { أم } حيثما وقعتْ من تقدير استفهام بعدها هو هنا استفهام في معنى الإنكار وتسلط الإنكار على اتخاذ البنات مع عدم تقدم ذكر البنات لكوْنِ المعلومِ من جعل المشْركين لله جزءاً أن المجعول جزءاً له هو الملائكة وأنهم يجعلون الملائكة إناثاً، فذلك معلوم من كلامهم. وجملة { وأصفاكم بالبنين } في موضع الحال.والنفي الحاصل من الاستفهام الإنكاري منصبّ إلى قيد الحال، فحصل إبطال اتخاذ الله البناتِ بدليلين، لأن إعطاءَهم البنين واقع فنفي اقترانه باتخاذه لنفسه البنات يقتضي انتفاء اتخاذه البنات فالمقصود اقتران الإنكار بهذا القيد. وبهذا يتضح أن الواو في جملة { وأصفاكم } ليست واو العطف لأن إنكار أن يكون أصفاهم بالبنين لا يقتضي نفي الأولاد الذكور عن الله تعالى. والخطابُ في { وأصفاكم } موجه إلى الذين جعلوا له من عباده جزءاً، وفيه التفات من الغيبة إلى الخطاب ليكون الإنكار والتوبيخ أوقع عليهم لمواجهتهم به.وتنكير { بنات } لأن التنكير هو الأصل في أسماء الأجناس. وأما تعريف { البنين } باللام فهو تعريف الجنس المتقدم في قوله

السابقالتالي
2