الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ ٱللَّهُ إِلاَّ وَحْياً أَوْ مِن وَرَآءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَآءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ }

عطف على ما سبق من حكاية ترّهاتهم عطفَ القصة على القصة وهو عود إلى إبطال شُبَه المشركين التي أشار إليها قوله تعالىكذلك يوحي إليك وإلى الذين من قبلك الله العزيز الحكيم } الشورى 3، وقوله تعالىكَبُر على المشركين ما تدعُوهم إليه } الشورى 13، وقد أشرنا إلى تفصيل ذلك فيما تقدم، ويزيده وضوحاً قوله عقبهوكذلك أوحينا إليك روحاً من أمرنا } الشورى 52. وهذه الآية تبطل الشبهة الثانية فيما عددناه من شبهاتهم في كون القرآن وحياً من الله إلى محمد صلى الله عليه وسلم إذ زعموا أن محمداً صلى الله عليه وسلم لو كان مرسلاً من الله لكانت معه ملائكة تصدق قوله أو لأنزل عليه كتاب جاهز من السماء يشاهدون نزوله قال تعالىوقالوا ما لهذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق لولا أنزل إليه مَلَك فيكون معه نذيراً } الفرقان 7 وقالوقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعاً } الإسراء 90 إلى أن قالولن نؤمن لِرُقيّكَ حتى تنزل علينا كتاباً نقرؤه } الإسراء 93.وإذ قد كان أهم غرض هذه السورة إثبات كون القرآن وحيا من الله إلى محمد صلى الله عليه وسلم كما أوحي من قبله للرسل كان العود إلى ذلك من قبيل ردّ العجز على الصدر. فبيَّن الله للمكذبين أن سنة الله في خطاب رسله لا تعدو ثلاثة أنحاء من الخطاب، منها ما جاء به القرآن فلم يكن ذلك بدعاً مما جاءت به الرسل الأولون وما كان الله ليخاطب رسله على الأنحاء التي اقترحها المشركون على النبي صلى الله عليه وسلم فجيء بصيغة حصر مفتتحة بصيغة الجحود المفيدة مبالغة النفي وهي { وما كان لبشر أن يكلمه الله } أي لم يتهيّأ لأحد من الرسل أن يأتيه خطاب من الله بنوع من هذه الثلاثة.ودل ذلك على انتفاء أن يكون إبلاغ مراد الله تعالى لأمم الرسل بغير أحد هذه الأنواع الثلاثة أعني خصوص نوع إرسال رسول، بدلالة فحوى الخطاب فإنه إذا كان الرسل لا يخاطبهم الله إلاّ بأحد هذه الأنحاء الثلاثة فالأمم أولى بأن لا يخاطبوا بغير ذلك من نحو ما سأله المشركون من رؤية الله يخاطبهم، أو مجيء الملائكة إليهم بل لا يتوجه إليهم خطاب الله إلاّ بواسطة رسول منهم يتلقى كلام الله بنحو من الأنحاء الثلاثة وهو مما يدخل في قوله { أو يرسل رسولاً فيوحي بإذنه ما يشاء } فإن الرسول يكون مَلَكاً وهو الذي يبلّغ الوحي إلى الرسُل والأنبياء.وخطاب الله الرسل والأنبياءَ قد يكون لقصد إبلاغهم أمراً يصلحهم نحو قوله تعالىيا أيها المزمل قم الليل إلا قليلاً } المزمل 1، 2، وقد يكون لإبلاغهم شرائع للأمم مثل معظم القرآن والتوراة، أو إبلاغهم مواعظ لهم مثل الزبور ومجلة لقمان.

السابقالتالي
2 3 4 5 6 7 8