الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ فَإِنْ أَعْرَضُواْ فَمَآ أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً إِنْ عَلَيْكَ إِلاَّ ٱلْبَلاَغُ وَإِنَّآ إِذَآ أَذَقْنَا ٱلإِنسَانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِهَا وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ ٱلإِنسَانَ كَفُورٌ }

{ فَإِنْ أَعْرَضُواْ فَمَآ أَرْسَلْنَـٰكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً إِنْ عَلَيْكَ إِلاَّ ٱلْبَلَـٰغُ }.الفاء للتفريع على قولهاستجيبوا لربكم } الشورى 47 الآية، وهو جامع لما تقدم كما علمت إذ أمر الله نبيئه بدعوتهم للإيمان من قوله في أول السورةوكذلك أوحينا إليك قرآناً عربياً لتُنذر أم القُرى ومَن حولها } الشورى 7 ثم قولهفلذلك فادعُ واستقم } الشورى 15. وما تخلل ذلك واعترضه من تضاعيف الأمر الصريح والضمني إلى قولهاستجيبوا لربكم } الشورى 47 الآية، ثم فرّع على ذلك كله إعلام الرسول صلى الله عليه وسلم بمقامه وعَمله إنْ أعْرَض معرضون من الذين يدعوهم وبمعذرته فيما قام به وأنه غير مقصر، وهو تعريض بتسليته على ما لاقاه منهم، والمعنى فإن أعرضوا بعد هذا كله فما أرسلناك حفيظاً عَلَيهم ومتكفلاً بهم إذ ما عليك إلا البلاغ.وإذ قد كان ما سبق من الأمر بالتبليغ والدعوة مصدَّراً بِقَوْله أوائل السورةوالذين اتخذوا من دونه أولياء الله حفيظ عليهم وما أنت عليهم بوكيل } الشورى 6، لا جرم ناسب أن يفرع على تلك الأوامر بعد تمامها مثل ما قدم لها فقال { فإن أعرضوا فما أرسلناك عليهم حفيظاً إن عليك إلا البلاغ }. وهذا الارتباط هو نكتة الالتفات من الخطاب الذي في قولهاستجيبوا لربكم } الشورى 47 الآية، إلى الغيبة في قوله هنا { فإن أعرضوا } وإلا لقيل فإن أعرضتم.والحفيظ تقدم في صدر السورة وقوله { فما أرسلناك عليهم حفيظاً } ليس هو جواب الشرط في المعنى ولكنه دليل عليه، وقائم مقامه، إذ المعنى فإن أعرضوا فلستَ مقصراً في دعوتهم، ولا عليك تَبعة صدّهم إذ ما أرسلناك حفيظاً عليهم، بقرينة قوله { إن عليك إلا البلاغ }. وجملة { إن عليك إلا البلاغ } بيان لجملة { فما أرسلناك عليهم حفيظاً } باعتبار أنها دالّة على جواب الشرط المقّدر.و { إنْ } الثانية نافية. والجمع بينها وبين { إنْ } الشرطية في هذه الجملة جناس تام.و { البلاغ } التبليغ، وهو اسم مصدر، وقد فهم من الكلام أنه قد أدى ما عليه من البلاغ لأن قوله { فإن أعرضوا فما أرسلناك عليهم حفيظاً } دلّ على نفي التبعة عن النبي صلى الله عليه وسلم من إعراضهم، وأن الإعراض هو الإعراض عن دعوته، فاستفيد أنه قد بلّغ الدعوة ولولا ذلك ما أثبت لهم الإعراض. { وَإِنَّآ إِذَآ أَذَقْنَا ٱلإِنسَـٰنَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِهَا وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ ٱلإِنسَـٰنَ كَفُورٌ }.تتصل هذه الجملة بقوله { فإن أعرضوا فما أرسلناك عليهم حفيظاً إن عليك إلا البلاغ }. لِما تضمنته هذه من التعريض بتسلية الرسول صلى الله عليه وسلم على ما لاقاه من قومه كما علمت، ويؤذن بهذا الاتصال أن هاتين الجلمتين جُعلتا آيةً واحدة هي ثامنة وأربعون في هذه السورة، فالمعنى لا يحزنك إعراضهم عن دعوتك فقد أعرضوا عن نِعمتي وعن إنذاري بزيادة الكفر، فالجملة معطوفة على جملة { فإن أعرضوا فما أرسلناك عليهم حفيظاً } وابتداء الكلام بضمير الجلالة المنفصل مسنَداً إليه فعل دون أن يقال وإذا أذقنا الإنسان الخ، مع أن المقصود وصف هذا الإنسان بالبطَر بالنعمة وبالكفر عند الشدة، لأن المقصود من موقع هذه الجملة هنا تسلية الرسول صلى الله عليه وسلم عن جفاء قومه وإعراضهم، فالمعنى أن معاملتهم ربهم هذه المعاملة تسلّيك عن معاملتهم إياك على نحو قوله تعالى

السابقالتالي
2 3