الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ مِنَ ٱلذُّلِّ يَنظُرُونَ مِن طَرْفٍ خَفِيٍّ وَقَالَ ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ إِنَّ ٱلْخَاسِرِينَ ٱلَّذِينَ خَسِرُوۤاْ أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ أَلاَ إِنَّ ٱلظَّالِمِينَ فِي عَذَابٍ مُّقِيمٍ }

{ وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَـٰشِعِينَ مِنَ ٱلذُّلِّ يَنظُرُونَ مِن طَرْفٍ خَفِىٍّ }.أعيد فعل ترى للاهتمام بهذه الرؤية وتهويلها كما أعيد فعل تلاقوا في قول ودَّاكٍ بن ثُمْيل المازني
رويداً بني شيبان بعضَ وعيدكم تُلاَقوا غداً خيلي على سَفَوَانِ تُلاقوا جياداً لا تَحِيدُ عن الوغَى إذا ظَهَرتْ في المَأْزِق المُتَدَانِي   
والعَرْض أصله إظهار الشيء وإراءته للغير، ولذلكَ كان قول العرب عَرَضْتُ البَعير على الحوض معدوداً عند علماء اللغة وعلماء المعاني من قبيل القَلْب في التركيب، ثم تتفرع عليه إطلاقات عديدة متقاربة دقيقة تحتاج إلى تدقيق.ومن إطلاقاته قولهم عَرْض الجندِ على الأمير، وعرض الأسرى على الأمير، وهو إمرارهم ليرى رأيه في حالهم ومعاملتهم، وهو إطلاقه هنا على طريق الاستعارة، استعير لفظ { يعرضون } لمعنى يُمَرُّ بهم مَرًّا عاقبته التمكن منهم والحكمُ فيهم فكأنَّ جهنم إذا عرضوا عليها تحكم بما أعدّ الله لهم من حريقها، ويفسره قوله في سورة الأحقاف 20ويَوم يُعرض الذين كفروا على النار أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا واستمتعتم بها } الآية.وقد تقدم إطلاق له آخر عند قوله تعالىثم عَرَضَهم على الملائكة } في سورة البقرة 31.وبني فعل { يعرضون } للمجهول لأن المقصود حصول الفعل لا تعيين فاعله. والذين يَعرِضون الكافرين على النار هم الملائكةُ كما دلت عليه آيات أخرى.وضمير { عليها } عائد إلى العذاب بتأويل أنه النار أو جهنم أو عائد إلى جهنم المعلومة من المقام.وانتصب { خاشعين } على الحال من ضمير الغيبة في { تراهُم } لأنها رؤية بصرية.والخشوع التطامن وأثَر انكسار النفس من استسلام واستكانة فيكون للمخافة، وللمهابة، وللطاعة، وللعجز عن المقاومة.والخشوع مثل الخضوع إلاّ أن الخضوع لا يسند إلاّ إلى البدن فيقال خضع فلان، ولا يقال خضع بَصَرُه إلا على وجه الاستعارة، كما في قوله تعالىفلا تخْضَعْنَ بالقول } الأحزاب 32، وأما الخشوع فيسند إلى البدن كقوله تعالىخاشعين لله } في آخر سورة آل عمران 199. ويُسند إلى بعض أعضاء البدن كقوله تعالىخُشَّعاً أبصارُهم } في سورة القمر 7، وقوله { وخشعت الأصوات للرحمان فلا تسمع إلا همساً } في سورة طه 108.والمراد بالخشوع في هذه الآية ما يبدو عليهم من أثر المذلة والمخافة. فقوله { من الذل } متعلق بـــ { خاشعين } وتعلقه به يغني عن تعليقه بــ { ينظرون } ويفيد ما لا يفيده تعليقه به.و { مِنْ } للتعليل، أي خاشعين خشوعاً ناشئاً عن الذل، أي ليس خشوعهم لتعظيم الله والاعتراف له بالعبودية لأن ذلك الاعتقاد لم يكن من شأنهم في الدنيا.وجملة { ينظرون من طرف خفي } في موضع الحال من ضمير { خاشعين } لأن النظر من طرف خفيّ حالة للخاشع الذليل، والمقصود من ذكرها تصوير حالتهم الفظيعة. وفي قريب من هذا المعنى قول النابغة يصف سبايا
يَنْظُرْن شزْراً إلى مَن جاءَ عن عُرُض بأوْجُهٍ منكِراتِ الرِقّ أحْرَارِ   
وقول جرير
فغضَّ الطرف إنك من نُمير فلا كعباً بلغتَ ولا كِلابا   

السابقالتالي
2 3