الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ وَمِنْ آيَاتِهِ ٱلْجَوَارِ فِي ٱلْبَحْرِ كَٱلأَعْلاَمِ } * { إِن يَشَأْ يُسْكِنِ ٱلرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَىٰ ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ } * { أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا وَيَعْفُ عَن كَثِيرٍ } * { وَيَعْلَمَ ٱلَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِيۤ آيَاتِنَا مَا لَهُمْ مِّن مَّحِيصٍ }

لما جرى تذكيرهم بأنّ ما أصابهم من مصيبة هو مسبب عن اقتراف أعمالهم، وتذكيرهم بحلول المصائب تارة وكشفها تارة أخرى بقولهويعفوا عن كثير } الشورى 30، وأعقب بأنهم في الحالتين غير خارجين عن قبضة القدرة الإلـٰهية سيق لهم ذكر هذه الآية جامعة مثالاً لإصابة المصائب وظهور مخائلها المخيفة المذكّرة بما يغفلون عنه من قدرة الله والتي قد تأتي بما أُنذروا به وقد تنكشف عن غير ضر، ودليلاً على عظيم قدرة الله تعالى وأنه لا محيص عن إصابة ما أراده، وإدماجاً للتذكير بنعمة السير في البحر وتسخير البحر للناس فإن ذلك نعمة، قال تعالىوالفُلْكِ التي تجري في البحر بما يَنْفَعُ الناس } في سورة البقرة 164، فكانت هذه الجملة اعتراضاً مثل جملةومن آياته خلق السماوات والأرض } الشورى 29.والآيات الأدلة الدالة على الحق.والجواري جمع جارية صفة لمحذوف دل عليه ذكر البحر، أي السفن الجواري في البحر كقوله تعالى في سورة الحاقة 11إنّا لَمَّا طَغَى الماء حملناكم في الجارية } وعُدل عن الفلك إلى { الجواري } إيماء إلى محل العبرة لأن العبرة في تسخير البحر لجريها وتفكير الإنسان في صنعها.والأعلام جمع عَلَم وهو الجبل، والمراد بالجواري السفن العظيمة التي تسع ناساً كثيرين، والعبرة بها أظهر والنعمة بها أكثر.وكتبت كلمة { الجوار } في المصحف بدون ياء بعد الراء ولها نظائر كثيرة في القرآن في الرسم والقراءة، وللقراء في أمثالها اختلاف وهي التي تُدعى عند علماء القراءات بالياءات الزوائد.وقرأ نافع وأبو عمرو وأبو جعفر { الجواري } في هذه السورة بإثبات الياء في حالة الوصل وبحذفها في حالة الوقف. وقرأ ابن كثير ويعقوب بإثبات الياء في الحالين. وقرأ الباقون بحذفها في الحالين.وإسكان الرياح قطع هبوبها، فإن الريح حركة وتموّج في الهواء فإذا سكن ذلك التموّج فلا ريح.وقرأ نافع { الريَاح } بلفظ الجمع. وقرأه الباقون { الريح } بلفظ المفرد. وفي قراءة الجمهور ما يدل على أن الريح قد تطلق بصيغة الإفراد على ريح الخير، وما قيل إن الرياح للخير والريح للعذاب في القرآن هو غالب لا مطّرد. وقد قرىء في آيات أخرى الرياح والريح في سياق الخير دون العذاب.وقرأ الجمهور { يشأ } بهمزة ساكنة. وقرأه ورش عن نافع من طريق الأصفهاني بألف على أنه تخفيف للهمزة.والرواكد جمع راكدة، والركود الاستقرار والثبوت.والظهْر الصلب للإنسان والحيوان، ويطلق على أعلى الشيء إطلاقاً شائعاً. يقال ظَهْر البيت، أي سطحه، وتقدم في قوله تعالىوليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها } البقرة 189. وأصله استعارة فشاعت حتى قاربت الحقيقة، فظَهْر البحر سطح مائه البادي للناظر، كما أطلق ظهْر الأرض على ما يبدو منها، قال تعالىما تَرك على ظهرها من دابّة } فاطر 45.وجُعل ذلك آيةً لكل صبّار شكور لأن في الحالتين خوفاً ونجاة، والخوف يدعو إلى الصبر، والنجاةُ تدعو إلى الشكر.

السابقالتالي
2 3