الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ وَلَوْ بَسَطَ ٱللَّهُ ٱلرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْاْ فِي ٱلأَرْضِ وَلَـٰكِن يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَّا يَشَآءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ }

عطف على جملةويزيدهم من فضله } الشورى 26 أو على المجموع من جملةويستجيب الذين آمنوا } الشورى 26 ومن جملة ويزيدهم من فضله.وموقع معناها موقع الاستدراك والاحتراس فإنها تشير إلى جواب عن سؤال مقدر في نفس السامع إذا سمع أن الله يستجيب للذين آمنوا وأنه يزيدهم من فضله أن يتساءل في نفسه أن مما يَسأل المؤمنون سعة الرّزق والبسطةَ فيه فقد كان المؤمنون أيام صدر الإسلام في حاجة وضيق رزق إذ منعهم المشركون أرزاقهم وقاطعوا معاملتهم، فيجاب بأن الله لو بسط الرّزق للنّاس كلهم لكان بسطه مفسداً لهم لأن الذي يستغني يتطرقه نسيان الالتجاء إلى الله، ويحمله على الاعتداء على الناس فكان من خير المؤمنينَ الآجِلِ لهم أن لا يبسط لهم في الرّزق، وكان ذلك منوطاً بحكمة أرادها الله من تدبير هذا العالم تَطّرد في الناس مؤمِنهم وكافرِهم قال تعالىإن الإنسان ليَطْغَى أنْ رءاه اسْتَغْنَى } العلق 6، 7. وقد كان في ذلك للمؤمن فائدة أخرى، وهي أن لا يشغله غناه عن العمل الذي به يفوز في الآخرة فلا تشغله أموالُه عنه، وهذا الاعتبار هو الذي أشار إليه النبي صلى الله عليه وسلم حين قال للأنصار لما تعرّضوا له بعد صلاة الصبح وقد جاءه مال من البَحرين " فوالله ما الفقرَ أخشى عليكم ولكنْ أخشى عليكم أن تُبْسَط عليكم الدنيا كما بُسطت على من قبلكم فتنَافَسُوها كما تنافَسُوها وتُهْلِككم كما أهلكتهم " وقد وردت هذه الآية مورداً كلياً لأن قوله { لعباده } يعُم جميع العباد. ومن هذه الكلية تحصل فائدة المسؤول عليه الجزئي الخاص بالمؤمنين مع إفادة الحكمة العامة من هذا النظام التكويني، فكانت هذه الجملة بهذا الاعتبار بمنزلة التذييل لما فيها من العموم، أي أن الله أسس نظام هذا العالم على قوانينَ عامةٍ وليس من حكمته أن يخص أولياءه وحزبه بنظام تكويني دنيوي ولكنه خصهم بمعاني القرب والرضى والفوز في الحياة الأبدية. وربما خصّهم بمَا أراد تخصيصهم به مما يرجع إلى إقامة الحق.والبغي العدوان والظلم، أي لبغى بعضهم على بعض لأن الغنى مظنة البطَر والأشر إذا صادف نفساً خبيثة، قال بعض بني جَرم من طيء من شعراء الحماسة
إذا أخصبتمو كنتمْ عَدُوًّا وإن أجْدَبتُمُو كنتمْ عيالاً   
ولبعض العرب أنشده في «الكشاف»
وقد جعل الوسْمِيُّ يُنبِتُ بينَنا وبينَ بني رُومَان نَبعاً وشَوْحَطا   
فأما الفَقر فقلما كان سبباً للبغي إلا بغياً مشوباً بمخافة كبغي الجائع بالافتكاك بالعنف فذلك لندرته لا يلتفت إليه، على أن السياق لبيان حكمة كون الرزق بقدَر لا لبيان حكمةٍ في الفقر.فالتلازم بين الشرط وجوابه في قوله { ولو بسط الله الرزق لعباده لبغوا } حاصل بهذه السببية بقطع النظر عن كون هذا السبب قد يخلفه ضده أيضاً، على أن بَين بسط الرزق وبين الفقر مراتب أخرى من الكفاف وضيق الرزق والخصاصة، والفقر، وهي متفاوتة فلا إشكال في التعليل.

السابقالتالي
2