لما جرى وعيد الذين يحاجُّون في الله لتأييد باطلهم من قوله تعالى{ والذين يحاجّون في الله من بعد ما استجيب له حجتهم داحضة عند ربهم وعليهم غضب ولهم عذاب شديد } الشورى 16. ثم أتبع بوصف سوء حالهم يوم الجزاء بقوله{ ترى الظالمين مشفقين مما كسبوا } الشورى 22، وقوبل بوصف نعيم الذين آمنوا بقوله{ والذين آمنوا وعملوا الصالحات في روضات الجنات } الشورى 22، وكان ذلك مَظنة أن يكسر نفوس أهل العناد والضلالة، أعقب بإعلامهم أن الله من شأنه قبول توبة من يتوب من عباده، وعفوُه بذلك عما سلف من سيئاتهم.وهذا الإخبار تعريض بالتحريض على مبادرة التوبة ولذلك جيء فيه بالفعل المضارع الصالح للاستقبال. وهو أيضا بشارة للمؤمنين بأنه قبل توبتهم مما كانوا فيه من الشرك والجاهلية فإن الذي من شأنه أن يقبل التوبة في المستقبل يكون قد قبل توبة التائبين من قبلُ، بدلالة لحن الخطاب أو فَحواه، وأن من شأنه الاستجابة للذين آمنوا وعملوا الصالحات من عباده. وكل ذلك جرْي على عادة القرآن في تعقيب الترهيب بالترغيب وعكسه. وهذا كله يتضمن وعداً للمؤمنين بقبول إيمانهم وللعصاة بقبول توبتهم.فجملة { وهو الذي يقبل التوبة عن عباده } معطوفة على جملة{ وإن الظالمين لهم عذاب أليم } الشورى 21 وما اتصل بها ممّا تقدم ذكره وخاصة جملة{ ويمح الله الباطل } الشورى 24.وابتِناءُ الإخبار بهذه الجملة على أسلوب الجملة الاسمية لإفادتها ثباتَ حكمها ودوامه. ومَجيءُ المسند اسم موصول لإفادة اتصاف الله تعالى بمضمون صلته وأنها شأن من شؤون الله تعالى عرف به ثابت له لا يتخلف لأنه المناسب لحكمته وعظَمة شأنه وغناه عن خلقه. وإيثار جملة الصلة بصيغة المضارع لإفادة تجدد مضمونه وتكرره ليعلموا أن ذلك وعد لا يتخلف ولا يختلف.وفعل قَبِلَ يتعدى بــ من الابتدائية تارة كما في قوله{ وما مَنَعَهم أن تقبل منهم نفقاتهم } التوبة 54 وقوله{ فلن يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهباً } آل عمران 91، فيفيد معنى الأخذ للشيء المقبول صادراً من المأخوذ منه، ويعدَّى بــ { عن } فيفيد معنى مجاوزة الشيء المقبول أو انفصالِه عن معطيه وباذِلِه، وهو أشد مبالغةً في معنى الفعل من تعديته بحرف من لأن فيه كناية عن احتباس الشيء المبذول عند المبذول إليه بحيث لا يُردّ على باذلِه.فحصلت في جملة { وهو الذي يقبل التوبة عن عباده } أربعُ مبالغات بناء الجملة على الاسمية وعلى الموصولية وعلى المضارعية، وعلى تعدية فعل الصلة بــ { عن } دون من.و { التوبة } الإقلاع عن فعل المعصية امتثالاً لطاعة الله، وتقدم الكلام عليها عند قوله تعالى{ فتلقّى آدم من ربه كلمات فتاب عليه } في سورة البقرة 37. وقبول التوبة منّة من الله تعالى لأنه لو شاء لَمَا رضِي عن الذي اقترف الجريمة ولكنه جعلها مقبولة لحكمته وفضله.وفي ذكر اسم العباد دون نحو الناس أو التائبين أو غير ذلك إيماء إلى أن الله رفيق بعباده لمقام العبودية فإن الخالق والصانع يحب صلاح مصنوعه.