الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ تَرَى ٱلظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُواْ وَهُوَ وَاقِعٌ بِهِمْ وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ فِي رَوْضَاتِ ٱلْجَنَّاتِ لَهُمْ مَّا يَشَآءُونَ عِندَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ هُوَ ٱلْفَضْلُ ٱلْكَبِيرُ }

جملة { ترى الظالمين مشفقين مما كسبوا } بيان لِجملةوإن الظالمين لهم عذاب أليم } الشورى 21، بُيِّن حال هذا العذاب ببيان حال أصحابه حينَ تَوقُّعِ حلوله، وكفى بذلك منبئاً عن هوله.والخطاب بــ { تَرى } لغير معيّن فيعم كل من تُمكن منه الرؤية يومئذٍ كقولهوترى الظالمين لمّا رأوا العذاب يقولون هل إلى مردَ من سبيل وتراهم يُعرضون عليها خاشعين من الذلّ } الشورى 44، 45. والمقصود استحضار صورة حال الظالمين يوم القيامة في ذهن المخاطب.والإشفاق توقع الشيء المضرّ وهو ضد التمَنّي.وما كسبوا هو أعمالهم السيئة. والمراد جزاؤها بقرينة المقام. وجملة { وهو واقع بهم } في موضع الحال، أي مشفقين إشفاقاً يقارب اليأس وهو أشد الإشفاق حين يعلمون أن المشفَق منه لا يُنجي منه حَذَر، لأن الإشفاق إذا حصل قبل اقتراب المشفَق منه قد يحاول المشفِق وسائلَ التخلص منه، فأما إذا وقع العذاب فقد حال دون التخلص حائله. والمعنى مشفقين من عقاب أعمالهم في حال نزول العقاب بهم. وليس المعنى أنهم مشفقون في الدّنيا من أعمالهم السيئة لأنهم لا يدينون بذلك، فما بُني على ذلك الاحتمال من التفسير ليس بَيِّناً.والباء في قوله { واقع بهم } للاستعلاء، كقول غاوي السُّلَمي
أَرَبٌّ يبول الثُعْلُبَانُ بِرأسه   
وهذا الاستعمال قريب من معنى الإلصاق المجازي. وضمير { وهو واقع } عائد على { ما كسبوا } باعتبار تقدير مضاف، أي جزاء ما كسبوا، أي في حال أن الجزاء واقع عليهم.وجملة { والذين آمنوا وعملوا الصالحات في روضات الجنات } حال من الظّالمين، والواو واو الحال، أي ترى الظالمين في إشفاق في حال أن الذين آمنوا يطمئنون في روضات الجنات، وفي هذه الحال دلالة على أن الذين آمنوا قد استقرّوا في الروضات من قبل عرض الظالمين على الحساب وإشفاقهم من تبعاته. وهذا من تضاد شأني الفريقين في الآخرة على عكسه بما كانوا عليه في الدّنيا المتقدم في قولهيستعجل بها الذين لا يؤمنون بها والذين آمنوا مشفقون منها } الشورى 18، أي فاليوم انقلب إشفاق المؤمنين اطمئناناً واطمئنان المشركين إشفاقاً، وشتّان بين الاطمئنانين والإشفاقين، وبهذه المضادة في الحالتين وأسبابهما صحّ اعتبار كينونة الذين آمنوا في الجنة حالاً من { الظالمين }.والروضات جمع روضة، وهي اسم لمجموع ماء وشجرٍ حافَ به وخضرةٌ حوله.وجملة { لهم ما يشاءون عند ربهم } خبر ثان عن { الذين آمنوا } ، و { عند } ظرف متعلق بالكون الذي تعلق به الجَار والمجرور في { لهم ما يشاءون }.والعندية تشريف لمعنى الاختصاص الذي أفادته اللام في قوله { لهم } وعناية بما يُعطَوْنَه من رغبة. والمعنى ما يشاؤونه حق لهم محفوظ عند ربهم. ولا ينبغي جعل { عند } متعلقاً بفعل { يشاءون } لأن { عند } حينئذٍ تكون ظرفاً لمشيئتهم، أي مشيئةٍ منهم متوجهةٍ إلى ربّهم، فتؤول المشيئة إلى معنى الطلب أن يعطيهم ما يطلبون فيفوت قصد التشريف والعناية.

السابقالتالي
2