هذه الآية متصلة بقوله{ يستعجل بها الذين لا يؤمنون بها والذين آمنوا مشفقون منها } الشورى 18 الآية، لِمَا تضمنته من وجود فريقين فريق المؤمنين أكبر همهم حياةُ الآخرة، وفريق الذين لا يؤمنون همهم قاصرة على حياة الدّنيا، فجاء في هذه الآية تفصيل معاملة الله الفريقين معاملة متفاوتة مع استوائهم في كونهم عبيده وكونهم بمحل لطف منه، فكانت جملة{ الله لطيف بعباده } الشورى 19 تمهيداً لهذه الجملة، وكانت هاته الجملة تفصيلاً لحظوظ الفريقين في شأن الإيمان بالآخرة وعدم الإيمان بها.ولأجل هذا الاتصال بينها وبين جملة{ يستعجل بها الذين لا يؤمنون بها } الشورى 18 تُرك عطفها عليها، وترك عطف توطئتها كذلك، ولأجل الاتصال بينها وبين جملة{ الله لطيف بعباده } الشورى 19 اتصالَ المقصود بالتوطئة تُرك عطفها على جملة { الله لطيف بعباده }.والحَرث أصله مصدر حَرَث، إذا شقّ الأرض ليزرع فيها حَبّاً أو ليغرس فيها شجراً، وأطلق على الأرض التي فيها زرع أو شجر وهو إطلاق كثير كما في قوله تعالى{ أنْ اغدُوا على حَرْثِكم إن كُنتم صارمين } القلم 22، أي جنتكم لقوله قبله{ كما بَلونا أصحابَ الجنّة } القلم 17 وقال{ زُين للناس حبّ الشهوات من النساء } آل عمران14 إلى قوله{ والأنعامِ والحَرث } وقد تقدم في سورة آل عمران 14.والحرث في هذه الآية تمثيل للإقبال على كسب ما يُعده الكاسب نفعاً له يرجو منه فائدة وافرة بإقبال الفلاَّح على شقّ الأرض وزرعها ليحصل له سنابل كثيرة وثمار من شجر الحرث، ومنه قول امرىء القيس
كِلانَا إذا ما نَال شيئاً أفاته ومن يَحْتَرث حَرثي وحَرْثَكَ يَهزِل
وإضافة { حرث } إلى { الآخرة } وإلى { الدنيا } على معنى اللام كقوله{ ومن أراد الآخرة وسعَى لها سعيها } الإسراء 19، وهي لام الاختصاص وهو في مثل هذا اختصاص المعلَّل بعلته، وما لام التعليل إلا من تصاريف لام الاختصاص.ومعنى { يريد حرث الآخرة } يبْتغي عملاً لأجل الآخرة. وذلك المريد هو المؤمن بالآخرة لأن المؤمن بالآخرة لا يخلو عن أن يريد الآخرة ببعض أعماله كثيراً كان أو قليلاً، والذي يريد حرث الدّنيا مراد به من لا يسعى إلا لعمل الدّنيا بقرينة المقابلة بمن يريد حرث الآخرة، فتعيّن أن مريد حرث الدّنيا في هذه الآية هو الذي لا يؤمن بالآخرة. ونظيرها في هذا قوله تعالى في سورة هود 15، 16{ من كان يريد الحياة الدّنيا وزينتها نُوَفِّ إليهم أعمالَهم فيها وهم فيها لا يُبْخسون أولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلا النار وحبِط ما صنعوا فيها وباطل ما كانوا يعملون } ألا ترى إلى قوله{ ليس لهم في الآخرة إلا النار } هود 16 وقوله في سورة الإسراء 18، 19{ مَن كان يريد العاجلة عجّلنا له فيها ما نشاء لمن نريد ثم جعلنا له جهنّم يصلاها مذموماً مدحوراً ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن فأولئك كان سعيُهم مشكوراً }