الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ ٱللَّهُ ٱلَّذِيۤ أَنزَلَ ٱلْكِتَابَ بِٱلْحَقِّ وَٱلْمِيزَانَ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ ٱلسَّاعَةَ قَرِيبٌ }

قد علمتم أن من جملة محاجة المشركين في الله ومِن أشدِّها تشغيباً في زعمهم محاجتهم بإنكار البعث كما في قولهمهل ندلكم على رجلٍ يُنبِّئكم إذا مُزِّقتم كلَّ مُمَزَّقٍ إِنكم لفي خَلقٍ جديدٍ أفترى على الله كذباً أم به جنّة } سبأ 7، 8، وقال شداد بن الأسود
يُخبِّرُنا الرّسولُ بأنْ سَنَحْيَا وكيفَ حياةُ أصداءٍ وهامِ   
وقد دحض الله حجتهم في مواضع من كتابه بنفي استحالته، وبدليل إمكانه، وأومأ هنا إلى مقتضي إيجابه، فبيّن أن البعث والجزاء حق وعدل فكيف لا يقدِّره مدبّر الكون ومنزّل الكتاب والميزان. وقد أشارت إلى هذا المعنى آيات كثيرة منها قوله تعالىأفحسبتم أنما خلقناكم عبثاً وأنكم إلينا لا تُرجَعون } المؤمنون 115 وقولهإن الساعة آتيةٌ أكادُ أُخفيها لتُجْزَى كلُّ نفس بما تَسعى } طه 15 وقالوما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما لاعبين ما خلقناهما إلا بالحقّ ولكن أكثرَهم لا يعلمون إنَّ يوم الفصل ميقاتُهم أجمعين } الدخان 38 ـــ 40.وأكثرُها جاء نظمها على نحو الترتيب الذي في نظم هذه الآية من الابتداء بما يذكِّر بحكمة الإيجاد وأن تمام الحكمة بالجزاء على الأعمال.فقوله { الله الذي أنزل الكتاب بالحق والميزان } تمهيد لقوله { وما يدريك لعل الساعة قريب } ، لأن قوله { وما يدريك لعل الساعة قريب } يؤذن بمقدر يقتضيه المعنى، تقديره فجُعل الجزاء للسائرين على الحق والناكبين عنه في يوم السّاعة فلا محيص للعباد عن لقاء الجزاء وما يدريك لعل الساعة قريب، فهو ناظر إلى قولهإن الساعة آتية أكاد أُخْفِيها لتُجزَى كلَّ نفسٍ بما تسعى } طه 15. وهذه الجملة موقعها من جملةوالذين يحاجون في الله } الشورى 16 موقع الدّليل، والدليلُ من ضروب البيان، ولذلك فصلت الجملة عن التي قبلها لشدة اتصال معناها بمعنى الأخرى.والإخبار عن اسم الجلالة باسم الموصول الذي مضمون صلته إنزالُه الكتابَ والميزانَ، لأجل ما في الموصولية من الإيماء إلى وجه بناء الخبر الآتي، وأنه من جنس الحق والعدل، مثل الموصول في قوله تعالىإن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنّم داخرين } غافر 60.ولام التعريف في { الكتاب } لتعريف الجنس، أي إنزال الكُتب وهو ينظر إلى قوله آنفاًوقل آمنت بما أنزل الله من كتاب } الشورى 15.والباء في { بالحق } للملابسة، أي أنزل الكتب مقترنة بالحق بعيدة عن الباطل.والحق كلّ ما يَحق، أي يجب في باب الصلاح عملُه ويصح أن يفسر بالأغراض الصحيحة النافعة.و { الميزان } حقيقته آلة الوزن، والوزن تَقديرُ ثِقَلِ جسم، والميزان آلة ذات كفتين معتدلتين معلقتين في طرفي قضيب مستوٍ معتدل، له عروة في وسطه، بحيث لا تتدلى إحدى الكفتين على الأخرى إذا أُمسك القضيب من عُروته. والميزان هنا مستعار للعدل والهدْي بقرينة قوله { أنزل } فإن الدّين هو المنزل والدّين يدعو إلى العدل والإنصاف في المجادلة في الدّين وفي إعطاء الحقوق، فشبه بالميزان في تساوي رجحان كفتيه قال تعالى

السابقالتالي
2