الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ شَرَعَ لَكُم مِّنَ ٱلدِّينِ مَا وَصَّىٰ بِهِ نُوحاً وَٱلَّذِيۤ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَىٰ وَعِيسَىٰ أَنْ أَقِيمُواْ ٱلدِّينَ وَلاَ تَتَفَرَّقُواْ فِيهِ كَبُرَ عَلَى ٱلْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ ٱللَّهُ يَجْتَبِيۤ إِلَيْهِ مَن يَشَآءُ وَيَهْدِيۤ إِلَيْهِ مَن يُنِيبُ }

{ شَرَعَ لَكُم مِّنَ ٱلدِّينِ مَا وَصَّىٰ بِهِ نُوحاً وَٱلَّذِيۤ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَىٰ وَعِيسَىٰ أَنْ أَقِيمُواْ ٱلدِّينَ وَلاَ تَتَفَرَّقُواْ فِيهِ }.انتقال من الامتنان بالنعم الجثمانية إلى الامتنان بالنعمة الروحية بطريق الإقبال على خطاب الرّسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين للتنويه بدين الإسلام وللتعريض بالكفار الذين أعرضوا عنه. فالجملة ابتدائية.ومعنى { شرع } أوضح وبيّن لكم مسالك ما كلفكم به. وأصل { شَرَعَ } جعل طريقاً واسعة، وكثُر إطلاقه على سنّ القوانين والأديان فسُمّي الدّين شريعة. فشرع هنا مستعار للتبيين كما في قولهأم لَهم شركاء شرَعُوا لهم من الدّين ما لم يأذن به الله } الشورى 21، وتقدم في قوله تعالىلكل جعلنا منكم شِرْعَةً ومنهاجاً } في سورة العقود 48.والتعريف في { الدين } تعريف الجنس، وهو يعمّ الأديان الإلهٰية السابقة. و { من } للتبعيض.والتوصية الأمر بشيء مع تحريض على إيقاعه والعمل به. ومعنى كونه شرع للمسلمين من الدّين ما وصَّى به نوحاً أن الإسلام دين مثل ما أمر بِه نوحاً وحضَّه عليه. فقوله { ما وصى به نوحاً } مقدر فيه مضاف، أي مثلَ ما وصَّى به نوحاً، أو هو بتقدير كاف التشبيه على طريقة التشبيه البليغ مبالغة في شدة المماثلة حتى صار المِثل كأنّه عين مثله. وهذا تقدير شائع كقول ورقة بن نوفل «هذا هو الناموس الذي أنزل على عيسى».والمراد المماثلة في أصول الدّين مما يجب لله تعالى من الصفات، وفي أصول الشريعة من كليات التشريع، وأعظمُها توحيدُ الله، ثم ما بعده من الكليات الخمس الضروريات، ثم الحاجيات التي لا يستقيم نظام البشر بدونها، فإن كل ما اشتملت عليه الأديان المذكورة من هذا النوع قد أُودع مثله في دين الإسلام. فالأديان السابقة كانت تأمر بالتوحيد، والإيمان بالبعث والحياةِ الآخرة، وتقْوى الله بامتثال أمره واجتناب مَنْهِيّه على العموم، وبمكارم الأخلاق بحسب المعروف، قال تعالىقد أفلح من تزكّى وذكر اسمَ ربّه فَصلَّى بل تؤثرون الحياة الدّنيا والآخرة خير وأبقى إنّ هذا لفي الصحف الأولى صحفِ إبراهيم وموسى } الأعلى 14 ـــ 19. وتختلف في تفاصيل ذلك وتفاريعه.ودين الإسلام لم يَخْلُ عن تلك الأصول وإن خالفها في التفاريع تضييقاً وتوسيعاً، وامتازت هذه الشريعة بتعليل الأحكام وسدّ الذرائع والأمر بالنظر في الأدلة وبرفع الحرج وبالسماحة وبشدة الاتصال بالفطرة، وقد بيّنتُ ذلك في كتابي «مقاصدِ الشريعة الإسلامية». أو المراد المماثلة فيما وقع عقبه بقوله { أن أقيموا الدين } إلخ بناء على أن تكون { أنْ } تفسيرية، أي شرع لكم وجوب إقامة الدّين المُوحَى به وعدم التفرّق فيه كما سيأتي. وأيًّا مَّا كان فالمقصود أن الإسلام لا يخالف هذه الشرائع المسمّاة، وأن اتّباعه يأتي بما أتت به من خير الدّنيا والآخرة.والاقتصار على ذكر دين نوح وإبراهيم وموسى وعيسى لأن نوحاً أول رسول أرسله الله إلى النّاس، فدينه هو أساس الدّيانات، قال تعالى

السابقالتالي
2 3 4 5