الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ فَاطِرُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً وَمِنَ ٱلأَنْعَامِ أَزْواجاً يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلْبَصِيرُ }

{ فَاطِرُ ٱلسَّمَـٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ }.خبر ثانٍ عن الضمير في قوله تعالىوهو على كل شيء قدير } الشورى 9، وما بينهما اعتراض كما علمت آنفاً أُعقب به أنه على كل شيء قدير، فإن خلق السماوات والأرض من أبرز آثار صفة القدرة المنفرد بها.والفاطر الخالق، وتقدم في أوّل سورة فاطر. { جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَٰجاً وَمِنَ ٱلأَنْعَـٰمِ أَزْوٰجاً يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ }.جملة في موضع الحال من ضمير { فاطر } لأن مضمونها حال من أحوال فَطْر السماوات والأرض فإن خلق الإنسان والأنعام من أعجب أحوال خلق الأرض. ويجوز كونها خبراً ثالثاً عن ضميروهو على كل شيء قدير } الشورى 9.والمعنى قَدَّر في تكوين نوع الإنسان أزواجاً لأفراده، ولما كان ذلك التقدير مقارناً لأصللِ تكوين النوع جيء فيه بالفعل الماضي.والخطاب في قوله { لكم } للنّاس كلّهم. والخطاب التفات من الغيبة. واللام للتعليل. وتقديم { لكم } على غيره من معمولات { جعل } ليُعرف أنه معمول لذلك الفعل فلا يتوهم أنه صفة لـــ { أزواجاً } ، وليكون التعليل به ملاحظاً في المعطوف بقوله { ومن الأنعام أزواجاً }.والأزواج جمع زوج وهو الذي ينضمُّ إلى فرد فيصير كِلاهما زوجاً للآخر والمراد هنا الذكور والإناث من النّاس، أي جعَل لمجموعكم أزواجاً، فللذكور أزواج من الإناث، وللنساء أزواج من الرّجال، وذلك لأجْل الجميع لأن بذلك الجعل حصلت لذة التأنس ونعمة النسل.ومعنى { من أنفسكم } من نوعكم، ومن بعضكم، كقولهفسلّموا على أنفسكم } النور 61 وقولهولا تقتلوا أنفسكم } النساء 29. وكون الأزواج من أنفسهم كمال في النعمة لأنه لو جعل أحد الزوجين من نوع آخر لفات نعيم الأنس، وأما زعم العرب في الجاهلية أن الرجل قد يتزوج جنيَّة أو غُولاً فذلك من التكاذيب وتخيلات بعضهم، وربّما عرض لبعض النّاس خبَال في العقل خاصّ بذلك فتخيل ذلك وتحدث به فراج عن كل أبْلَه.وقوله { ومن الأنعام أزواجاً } عطف على { أزواجاً } الأول فهو كمفعول لــ { جعل } والتقدير وجعل من الأنعام أزواجاً، أي جعل منها أزواجاً بعضها لبعض. وفائدة ذكر أزواج الأنعام دون أزواج الوحش أن في أنواع الأنعام فائدة لحياة الإنسان لأنها تعيش معه ولا تنفر منه وينتفع بألبانها وأصوافها ولحومها ونسلها وعملها من حمْل وحرث، فبِجَعْلها أزواجاً حصل معظم نفعها للإنسان.والذرءُ بث الخلق وتكثيره، ففيه معنى توالي الطبقات على مرّ الزمان إذ لا منفعة للنّاس من أزواج الأنعام باعتبارها أزواجاً سوى ما يحصل من نسلها.وضمير الخطاب في قوله { يذرؤكم } للمخاطبين بقوله { جعل لكم }. ومرادُ شموله لجعل أزواج من الأنعام المتقدم ذكره لأن ذكر أزواج الأنعام لم يكن هَمَلاً بل مراداً منه زيادة المنّة فإن ذَرْءَ نسل الإنسان نعمة للنّاس وذَرْء نسل الأنعام نعمة أخرى للنّاس، ولذلك اكتفى بذكر الأزواج في جانب الأنعام عن ذكر الذرء إذ لا منفعة للناس في تزاوج الأنعام سوى ما يحصل من نسلها.

السابقالتالي
2 3