الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآناً أعْجَمِيّاً لَّقَالُواْ لَوْلاَ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ ءَاعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُواْ هُدًى وَشِفَآءٌ وَٱلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ فِيۤ آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُوْلَـٰئِكَ يُنَادَوْنَ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ }

{ وَلَوْ جَعَلْنَـٰهُ قُرْءَاناً أعْجَمِيّاً لَّقَالُواْ لَوْلاَ فُصِّلَتْ ءَايَـٰتُهُ ءَاعْجَمِىٌّ وَعَرَبِىٌّ }.اتصال نظم الكلام من أول السورة إلى هنا وتناسب تنقلاته بالتفريع والبيان والاعتراض والاستطراد يقتضي أن قوله { ولو جعلناه قرآناً أعجمياً لقالوا } إلى آخره تنقُّلٌ في دَرجَ إثبات أن قصدهم العناد فيما يتعللون به ليواجهوا إعراضهم عن القرآن والانتفاع بهديه بما يختلقونه عليه من الطعن فيه والتكذيبِ به، وتكلّفُ الأعذار الباطلة ليتستروا بذلك من الظهور في مظهر المنهزم المحجوج، فأخَذ يَنقض دعاويهم عُروة عُروة، إذْ ابتدئت السورة بتحدِّيهم بمعجزة القرآن بقولهحم تَنزِيلٌ مِنَ الرَّحْمٰن الرَّحِيمِ كِتٰبٌ فُصِّلَتْ ءايٰتُهُ قُرءَاناً عَرَبِياً } فصلت 1 ـــ 3 إلى قولهفهم لا يسمعون } فصلت 4 فهذا تحدَ لهم ووصف للقرآن بصفة الإِعجاز.ثم أخذَ في إبطال معاذيرهم ومطاعنهم بقولهوقالوا قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه } فصلت 5، فإن قولهم ذلك قصدوا به أن حجة القرآن غير مقنعة لهم إغاظة منهم للنبي صلى الله عليه وسلم ثم تَمالُئهم على الأعراض بقولهوقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون } فصلت 26 وهو عجز مكشوف بقولهإن الذين يلحدون في ءاياتنا لا يَخْفَون علينا } فصلت 40 وبقولهإن الذين كفروا بالذكر لما جاءهم } فصلت 41 الآيات. فأعقبها بأوصاف كمال القرآن التي لا يجدون مطعناً فيها بقولهوإنه لكتاب عزيز } فصلت 41 الآية.وإذ قد كانت هذه المجادلات في أول السورة إلى هنا إبطالاً لتعللاتهم، وكان عماده على أن القرآن عربي مفصَّل الدلالةِ المعروفةِ في لغتهم حسبما ابتدىء الكلام بقولهكِتٰبٌ فُصِّلَتْ ءايٰتُهُ قُرءاناً عربياً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ } فصلت 3 وانْتُهي هنا بقولهوإنه لكتاب عزيز لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه } فصلت 41،42، فقد نهضت الحجة عليهم بدلالته على صدق الرسول صلى الله عليه وسلم من هذه الجهة فانتقل إلى حجة أخرى عمادها الفرضُ والتقديرُ أن يكون قد جاءهم الرسول صلى الله عليه وسلم بقرآن من لغة أخرى غير لغة العرب.ولذلك فجملة { ولو جعلناه قرءاناً أعجمياً } معطوفة على جملةوإنه لكتاب عزيز } فصلت 41 على الاعتبارين المتقدمين آنفاً في موقع تلك الجملة.ومعنى الآية متفرع على ما يتضمنه قولهكِتٰب فُصِّلَتْ آياتُهُ قُرْءاناً عربياً لِقَوم يعلمون } فصلت 3 وقولهقل إنما أنا بشر مثلكم يوحَى إلي } الكهف 110 من التحدِّي بصفة الأمية كما علمت آنفاً، أي لو جئناهم بلون آخر من معجزة الأمية فأنزلنا على الرسول قُرآناً أعجمياً، وليس للرسول صلى الله عليه وسلم علم بتلك اللغة من قبل، لقلبوا معاذيرهم فقالوا لولا بُينت آياتُه بلغة نفهمها وكيف يخاطِبنا بكلام أعجمي. فالكلام جار على طريقة الفرض كما هو مقتضى حرف { لو } الامتناعية. وهذا إبانة على أن هؤلاء القوم لا تجدي معهم الحجة ولا ينقطعون عن المعاذير لأن جدالهم لا يريدون به تطلب الحق وما هو إلا تعنت لترويج هواهم.

السابقالتالي
2 3 4