الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ وَلاَ تَسْتَوِي ٱلْحَسَنَةُ وَلاَ ٱلسَّيِّئَةُ ٱدْفَعْ بِٱلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا ٱلَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ }

عَطْفُ هذه الجملة له موقع عجيب، فإنه يجوز أن يكون عطفاً على جملةوَمَن أحْسَنُ قَوْلاً مِمَّن دَعَا إلى الله } فصلت 33 الخ تكملة لها فإن المعطوف عليها تضمنت الثناء على المؤمنين إثر وعيد المشركين وذمِّهم، وهذه الجملة فيها بيان التفاوت بين مرتبة المؤمنين وحال المشركين، فإن الحسنة اسم منقول من الصفة فتلمُّحُ الصفة مقارن له، فالحسنة حالة المؤمنين والسيئة حالة المشركين، فيكون المعنى كمعنى آيات كثيرة من هذا القبيل مثل قوله تعالىوما يستوي الأعمى والبصير والذين آمنوا وعملوا الصالحات ولا المسيء } غافر 58، فعطف هذه الجملة على التي قبلها على هذا الاعتبار يكون من عطف الجمل التي يجمعها غرض واحد وليس من عطف غرض على غرض. ويجوز أن تكون عطفاً على جملةوقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرءان والغوا فيه لعلكم تَغلبون } فصلت 26 الواقعة بعد جملةوقالوا قلوبنا في أكِنَّة مِمَّا تدعُونَا إليه } فصلت 5 إلى قولهفاعمل إننا عٰمِلُون } فصلت 5 فإن ذلك مثير في نفس النبي صلى الله عليه وسلم الضجر من إصرار الكافرين على كفرهم وعدم التأثر بدعوة النبي صلى الله عليه وسلم إلى الحق فهو بحال من تضيق طاقة صبره على سفاهة أولئك الكافرين، فأردف الله ما تقدم بما يدفع هذا الضيق عن نفسه بقوله { ولا تَسْتَوِي الحَسَنَةُ ولا السيئة } الآية.فالحسنة تعم جميع أفراد جنسها وأُولاها تبادراً إلى الأذهان حسنةُ الدعوة إلى الإسلام لما فيها من جمّ المنافع في الآخرة والدنيا، وتشمل صفة الصفح عن الجفاء الذي يلقَى به المشركون دعوةَ الإسلام لأن الصفح من الإحسان، وفيه ترك ما يثير حميتهم لدينهم ويقرب لين نفوس ذوي النفوس اللينة. فالعطف على هذا من عطف غرض على غرض، وهو الذي يعبر عنه بعطف القصة على القصة، وهي تمهيد وتوطئة لقوله عقبها { ادْفَع بالتي هِيَ أحْسَنُ } الآية.وقد علمتَ غير مرة أن نفي الاستواء ونحوه بين شيئين يراد به غالباً تفضيل أحدهما على مُقابله بحسب دلالة السياق كقوله تعالىأفمن كان مؤمناً كمن كان فاسقاً لا يستوون } السجدة 18. وقولِ الأعشى
ما يُجْعَلُ الجُدُّ الضَّنُونُ الذي جُنِّبَ صَوْبَ اللَّجِبِ الماطر مِثلَ الفُراتيِّ إذَا مَا طَمَا يَقْذِفُ بالبُوصِيِّ والماهرِ   
فكان مقتضى الظاهر أن يقال ولا تستوي الحسنة والسيئة، دون إعادة { لا } النافية بعد الواو الثانية كما قال تعالىوما يستوي الأعمى والبصير } غافر 58، فإعادة { لا } النافية تأكيد لأختها السابقة. وأحسن من اعتبار التأكيد أن يكون في الكلام إيجاز حذف مؤذن باحتباك في الكلام، تقديره وما تسْتوي الحسنة والسيئةُ ولا السيئة والحسنة. فالمراد بالأول نفي أن تلتحق فضائل الحسنة مساوىء السيئة، والمراد بالثاني نفي أن تلتحق السيئة بشرف الحسنة. وذلك هو الاستواء في الخصائص، وفي ذلك تأكيد وتقوية لنفي المساواة ليدل على أنه نفي تام بين الجنسين جنسِ الحسنة وجنس السيئة لا مبالغة فيه ولا مجازَ، وقد تقدم الكلام على نظيره في سورة فاطر.

السابقالتالي
2 3 4