الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَآ إِلَى ٱللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ ٱلْمُسْلِمِينَ }

ليس هذا من حكاية خطاب الملائكة للمؤمنين في الآخرة وإنما هو موجه من الله فالأظهر أنه تكملة للثناء علىالذين قالوا ربنا الله } فصلت 30، واستقاموا، وتوجيه لاستحقاقهم تلك المعاملة الشريفة، وقمع للمشركين إذ تقرع أسماعَهم، أي كيف لا يكونون بتلك المثابة وقد قالوا أحسن القول وعملوا أحسن العمل. وذكر هذا الثناء عليهم بحسن قولهم عقب ذكر مذمة المشركين ووعيدُهم على سوء قولهملا تسمعوا لهذا القرآن } فصلت 26، مشعر لا محالة بأن بين الفريقين بوناً بعيداً، طَرَفَاه الأحسنُ المصرحُ به، والأسوأُ المفهوم بالمقابلة، أي فلا يستوي الذين قالوا أحسنَ القول وعملوا أصلح العمل مع الذين قالوا أسوأ القول وعملوا أسوأَ العمل، ولهذا عقب بقولهوَلا تَسْتَوي الحَسَنة ولاَ السَّيِئَة } فصلت 34.والواو إما عاطفة على جملةإنَّ الذين قالوا ربُّنا الله } فصلت 30، أو حاليَّة من { الذينَ قالُوا }. والمعنى أنهم نالوا ذلك إذْ لا أحسن منهم قولاً وعملاً. و { مَنْ } استفهام مستعمل في النفي، أي لا أحد أحسن قولاً من هذا الفريق كقولهومن أحسن ديناً ممن أسلم وجهه للَّه } الآية في سورة النساء 125.و { ممن دعا إلى اللَّه } كل أحد ثبت له مضمون هذه الصلة. والدعاء إلى شيء أمر غيرك بالإقبال على شيء، ومنه قولهم الدعوة العباسية والدعوة العَلوية، وتسمية الواعظ عند بني عبيد بالداعي لأنه يدعو إلى التشيُّع لآل علي بن أبي طالب. فالدعاء إلى الله تمثيل لحال الآمِرِ بإفراد الله بالعبادة ونبذ الشرك بحال من يدعو أحداً بالإِقبال إلى شخص، وهذا حال المؤمنين حين أعلنوا التوحيد وهو ما وُصفوا به آنفاً في قولهإنَّ الَّذِين قالوا ربُّنا } فصلت 30 كما علمتَ وقد كان المؤمنون يدعون المشركين إلى توحيد الله، وسيّدُ الداعين إلى الله هو محمد صلى الله عليه وسلم. وقوله { مِمَّن دعا إلى الله } مِنْ فيه تفضيلية لاسْم { أَحْسَنُ } ، والكلام على حذف مضاف تقديره من قول من دعا إلى الله. وهذا الحذف كالذي في قول النابغة
وقد خِفت حتى ما تَزيد مخافتي على وَعِلٍ في ذي المَطارة عاقل   
أي لا تزيد مخافتي على مخافة وعل، ومنه قوله تعالىولكن البر من آمن باللَّه } الآية في سورة البقرة 177.والعمل الصالح هو العمل الذي يصلُح عامِلُه في دينه ودنياه صلاحاً لا يشوبه فساد، وذلك العمل الجاري على وفق ما جاء به الدين، فالعمل الصالح هو ما وصف به المؤمنون آنفاً في قولهثمَّ استَقٰمُوا } فصلت 30.وأما { وَقَالَ إنَّني مِنَ المُسْلِمِينَ } فهو ثناء على المسلمين بأنهم افتخروا بالإسلام واعتزوا به بين المشركين ولم يتستروا بالإسلام.والاعتزاز بالدين عمل صالح ولكنه خص بالذكر لأنه أريد به غيظ الكافرين. ومثال هذا ما وقع يوم أحد حين صَاح أبو سفيان اعْلُ هُبَلْ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم قولوا

السابقالتالي
2