الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ إِنَّ ٱلَّذِينَ قَالُواْ رَبُّنَا ٱللَّهُ ثُمَّ ٱسْتَقَامُواْ تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ ٱلْمَلاَئِكَةُ أَلاَّ تَخَافُواْ وَلاَ تَحْزَنُواْ وَأَبْشِرُواْ بِٱلْجَنَّةِ ٱلَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ } * { نَحْنُ أَوْلِيَآؤُكُمْ فِي ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا وَفِي ٱلآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِيۤ أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ } * { نُزُلاً مِّنْ غَفُورٍ رَّحِيمٍ }

بعد استيفاء الكلام على ما أصاب الأممَ الماضية المشركين المكذبين من عذاب الدنيا وما أُعدّ لهم من عذاب الآخرة مما فيه عبرة للمشركين الذين كذبوا محمداً صلى الله عليه وسلم بطريق التعريض، ثم أنذروا بالتصريح بما سيحلّ بهم في الآخرة، ووصف بعض أهواله، تشَوَّفَ السامعُ إلى معرفة حظ المؤمنين ووصفِ حالهم فجاء قوله { إنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا الله } الخ، بياناً للمترقب وبشرى للمتطلب، فالجملة استئناف بياني ناشىء عما تقدم من قولهويَوْمَ يُحْشَرُ أعدَاءُ اللهِ إلَى النَّارِ } فصلت 19 إلى قولهمِنَ الأَسْفَلِينَ } فصلت 29.وافتتاح الجملة بحرف التوكيد منظور فيه إلى إنكار المشركين ذلك، ففي توكيد الخبر زيادة قمع لهم. ومعنى { قالوا ربُّنا الله } أنهم صدعوا بذلك ولم يخشَوا أحداً بإعلانهم التوحيد، فقولُهم تصريح بما في اعتقادهم لأن المراد بهم قالوا ذلك عن اعتقاد، فإن الأصل في الكلام الصدق وهو مطابقة الخبر الواقع وما في الوجود الخارجي.وقوله { رَبُّنَا الله } يفيد الحصر بتعريف المسند إليه والمسند، أي لا ربّ لنا إلا الله، وذلك جامع لأصل الاعتقادِ الحق لأن الإِقرار بالتوحيد يزيل المانع من تصديق الرسول صلى الله عليه وسلم فيما جاء به إذ لم يصُدَّ المشركين عن الإِيمان بما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم إلا أنه أمرهم بنبذ عبادة غير الله، ولأن التكذيب بالبعث تلقوه من دعاة الشرك.والاستقامة حقيقتها عدم الاعوجاج والميلِ، والسين والتاء فيها للمبالغة في التقوّم، فحقيقة استقام استقَل غير مائل ولا منحن. وتطلق الاستقامة بوجه الاستعارة على ما يجمع معنى حسن العمل والسيرة على الحق والصدق قال تعالىفاسْتَقِيموا إليه واستَغْفروه } فصلت 6 وقالفاستقم كما أمرت } هود 112، ويقال استقامت البلاد للملك، أي أطاعت، ومنه قوله تعالىفما استقاموا لكم فاستقيموا لهم } التوبة 7. فــــ { استَقٰمُوا } هنا يشمل معنى الوفاء بما كلفوا به وأول ما يشمل من ذلك أن يثبتوا على أصل التوحيد، أي لا يغيروا ولا يرجعوا عنه.ومن معنى هذه الآية ما روي في «صحيح مسلم» عن سفيان الثقفي قال قلتُ يا رسول الله قُل لي في الإِسلام قولاً لا أسألُ عنه أحداً غيرَك. قال " قُل آمنت بالله ثم استقِمْ " وعن أبي بكر { ثُمَّ استَقٰمُوا } لم يشركوا بالله شيئاً. وعن عمر استقاموا على الطريقة لطاعته ثم لم يروغوا روغان الثعَالب. وقال عثمان ثم أخلَصوا العمل لله. وعن علي ثم أدّوا الفرائض. فقد تولى تفسير هذه الآية الخلفاء الأربعة رضي الله عنهم. وكل هذه الأقوال ترجع إلى معنى الاستقامة في الإِيمان وآثاره، وعناية هؤلاء الأربعة أقطاب الإسلام ببيان الاستقامة مُشير إلى أهميتها في الدين.وتعريب المسند إليه بالموصولية دون أن يقال إن المؤمنين ونحوه لما في الصلة من الإِيماء إلى أنها سبب ثبوت المسند للمسند إليه فيفيد أن تنزل الملائكة عليهم بتلك الكَرامة مسبَّب على قولهم { رَبُّنَا الله } واستقامتهم فإن الاعتقاد الحق والإِقبال على العمل الصالح هما سبب الفوز.

السابقالتالي
2 3 4