الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ تَنزِيلٌ مِّنَ ٱلرَّحْمَـٰنِ ٱلرَّحِيمِ } * { كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ } * { بَشِيراً وَنَذِيراً فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ }

افتتح الكلام باسم نكرة لما في التنكير من التعظيم. والوجه أن يكون { تَنزِيلٌ } مبتدأ سَوَّغ الابتداء به ما في التنكير من معنى التعظيم فكانت بذلك كالموصوفة وقوله { مِنَ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيم } خبر عنه. وقوله { كتاب } بَدل من { تنزيل } فحصل من المعنى أن التنزيل من الله كتاب، وأن صفته فُصّلت آياته، موسوماً بكونه قرآناً عربياً، فحصل من هذا الأسلوب أن القرآن منزَّل من الرحمان الرحيم مفصلاً عربياً. ولك أن تجعل قوله { مِنَ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيم } في موضع الصفة للمبتدأ وتجعل قوله { كتاب } خبرَ المبتدأ، وعلى كلا التقديرين هو أسلوب فخم وقد مَضى مثله في قوله تعالىآلمص كتاب أنزل إليك } الأعراف 1،2.والمراد أنه منزَّل، فالمصدر بمعنى المفعول كقولهوإنه لتنزيل رب العالمين نزل به الروح الأمين } الشعراء 192،193 وهو مبالغة في كونه فَعَل الله تنزيله، تحقيقاً لكونه موحى به وليس منقولاً من صحف الأولين. وتنكير { تنزيل } و { كتاب } لإِفادة التعظيم.والكتاب اسم لمجموع حروف دالة على ألفاظ مفيدة وسمي القرآن كتاباً لأن الله أوحى بألفاظه وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم بأن يكتب ما أُوحي إليه، ولذلك اتخذ الرسول صلى الله عليه وسلم كتَّاباً يكتبون له كل ما ينزل عليه من القرآن. وإيثار الصفتين { الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ } على غيرهما من الصفات العلية للإِيماء إلى أن هذا التنزيل رحمة من الله بعباده ليخرجهم من الظلمات إلى النور كقوله تعالىفقد جاءكم بينة من ربكم وهدى ورحمة } الأنعام 157 وقولِه تعالىوما أرسلناك إلا رحمة للعالمين } الأنبياء 107 وقولهأولم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم إن في ذلك لرحمة وذكرى لقوم يؤمنون } العنكبوت 51.والجمع بين صفتي { الرَّحْمٰنِ الرَّحِيم } للإيماء إلى أن الرحمة صفة ذاتيَّة لله تعالى، وأن متعلقها منتشر في المخلوقات كما تقدم في أول سورة الفاتحة والبسملة. وفي ذلك إيماء إلى استحماق الذين أعرضوا عن الاهتداء بهذا الكتاب بأنهم أعرضوا عن رحمة، وأن الذين اهتدوا به هم أهل المرحمة لقوله بعد ذلكقل هو للذين آمنوا هدى وشفاء والذين لا يؤمنون في آذانهم وقر وهو عليهم عمى } فصلت 44.ومعنى { فُصِّلَتْ ءَايٰتُه } بُينت، والتفصيل التبيين والإخلاء من الالتباس. والمراد أن آيات القرآن واضحة الأغراض لا تلتبس إلا على مكابر في دلالة كل آية على المقصود منها، وفي مواقعها وتمييز بعضها عن بعض في المعنى باختلاف فنون المعاني التي تشتمل عليها، وقد تقدم في طالعة سورة هود.ومن كمال تفصيله أنه كان بلغة كثيرة المعاني، واسعة الأفنان، فصيحة الألفاظ، فكانت سالمة من التباس الدلالة، وانغلاق الألفاظ، مع وفرة المعاني غير المتنافية في قلة التراكيب، فكان وصفه بأنه عربي من مكملات الإِخبار عنه بالتفصيل. وقد تكرر التنويه بالقرآن من هذه الجهة كقولهبلسان عربي مبين }

السابقالتالي
2