الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ فَأَمَّا عَادٌ فَٱسْتَكْبَرُواْ فِي ٱلأَرْضِ بِغَيْرِ ٱلْحَقِّ وَقَالُواْ مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّ ٱللَّهَ ٱلَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُواْ بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ } * { فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِيۤ أَيَّامٍ نَّحِسَاتٍ لِّنُذِيقَهُمْ عَذَابَ ٱلْخِزْيِ فِي ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا وَلَعَذَابُ ٱلآخِرَةِ أَخْزَىٰ وَهُمْ لاَ يُنصَرُونَ }

بعد أن حُكي عن عاد وثمود ما اشترك فيه الأمتان من المكابرة والإصرار على الكفر فصّل هنا بعض ما اختصت به كل أمة منهما من صورة الكفر، وذكر من ذلك ما له مناسبة لما حلّ بكل أمة منهما من العذاب.والفاء تفريع على جملةقَالُوا لَو شَاءَ رَبُّنَا لأَنْزَلَ مَلائكَةً } فصلت 14 المقتضية أنهم رفضوا دعوَة رسوليهم ولم يقبلوا إرشادهما واستدلالهما.و { أَمَّا } حرف شرط وتفصيل، وقد تقدم الكلام عليها عند قوله تعالىفأما الذين آمنوا فيعلمون أنه الحق من ربهم } في سورة البقرة 26. والمعنى فأما عاد فمنعهم من قبول الهدى استكبارهم.والاستكبار المبالغة في الكبر، أي التعاظم واحتقار الناس، فالسين والتاء فيه للمبالغة مثل استجاب، والتعريف في { الأرْض } للعهد، أي أرضهم المعهودة. وإنما ذُكر من مساويهم الاستكبار لأن تكبرهم هو الذي صرفهم عن اتباع رسولهم وعن توقع عقاب الله.وقوله { بِغَيْرِ الحَقِّ } زيادة تشنيع لاستكبارهم، فإن الاستكبار لا يكون بحق إذ لا مبرر للكبر بوجه من الوجوه لأن جميع الأمور المغريات بالكبر من العلم والمال والسلطان والقوة وغير ذلك لا تُبلغ الإِنسان مبلغ الخلوّ عن النقص وليس للضعيف الناقص حق في الكبر ولذلك كان الكبر من خصائص الله تعالى. وهم قد اغترُّوا بقوة أجسامهم وعزة أمتهم وادعوا أنهم لا يغلبهم أحد، وهو معنى قولهم { مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَةً } فقولهم ذلك هو سبب استكبارهم لأنه أورثهم الاستخفاف بمن عداهم، فلما جاءهم هود بإنكار ما هم عليه من الشرك والطغيان عظم عليهم ذلك لأنهم اعتادوا العجب بأنفسهم وأحوالهم فكذبوا رسولهم.فلما كان اغترارهم بقوتهم هو باعثَهم على الكفر وكان قولهم { مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَةً } دليلاً عليه خصّ بالذكر. وإنما عطف بالواو مع أنه كالبيان لقوله { فَاسْتَكْبَرُوا في الأرْضِ بِغَيْرِ الحَقِّ } إشارة إلى استقلاله بكونه مُوجب الإِنكار عليهم، لأن قولهم ذلك هو بمفرده منكر من القول فذُكر بالعطف على فعل «استكبروا» لأن شأن العطف أن يقتضي المغايرة بين المعطوف والمعطوف عليه، ويعلم أنه باعثهم على الاستكبار بالسياق.وجملة { أوَلَم يَرَوا أنَّ الله الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أشَدُّ مِنْهُم قُوَّةً } جملة معترضة، والواو اعتراضية. والرؤية علمية، والاستفهام إنكاري، والمعنى إنكار عدم علمهم بأن الله أشد منهم قوة حيث أعرضوا عن رسالة رسول ربهم وعن إنذاره إياهم إعراضَ من لا يكترث بعظمة الله تعالى لأنهم لو حسبوا لذلك حسابه لتوقعوا عذابَه فَلأَقْبلوا على النظر في دلائل صدق رسولهم. وإجراءُ وصف { الَّذِي خَلَقَهُمْ } على اسم الجلالة لما في الصلة من الإِيماء إلى وجه الإِنكار عليهم لجهلهم بأن الله أقوى منهم فإن كونهم مخلوقين معلوم لهم بالضرورة، فكان العلم به كافياً في الدلالة على أنه أشدّ منهم قوة، وأنه حقيق بأن يحسبوا لغضبه حسابه فينظروا في أدلة صدق رسوله إليهم.

السابقالتالي
2 3 4