الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِن فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَآ أَقْوَاتَهَا فِيۤ أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَآءً لِّلسَّآئِلِينَ }

عطف على فعل الصلة لا على معمول الفعل، فجملة { وَجَعَلَ فِيهَا رَوٰسِيَ } الخ صلة ثانية في المعنى، ولذلك جيء بفعل آخر غير فعل خلق لأن هذا الجعل تكوين آخر حصل بعد خلق الأرض وهو خلق أجزاء تتصل بها إما من جنسها كالجبال وإما من غير جنسها كالأقوات ولذلك أعقب بقوله { فِي أرْبَعَةِ أيَّامٍ } بعد قولهفِي يَوْمَيْنِ } فصلت 9.والرواسي الثوابت، وهو صفة للجبال لأن الجبال حجارة لا تنتقل بخلاف الرمال والكثبان، وهي كثيرة في بلاد العرب. وحذف الموصوف لدلالة الصفة عليه كقوله تعالىومن آياته الجواري في البحر } الشورى 32 أي السفن الجواري. وقد تقدم تفسيره عند قوله تعالىوجعلنا في الأرض رواسي أن تميد بهم } في سورة الأنبياء 31.ووصفُ الرواسي بــــ { مِن فَوْقِهَا } لاستحضار الصورة الرائعة لمناظر الجبال، فمنها الجميل المنظر المجلّل بالخضرة أو المكسوّ بالثلوج، ومنها الرهيب المرأى مثل جبال النار البراكين، والجبال المعدنية السود.و { بارك فيها } جعل فيها البَرَكة. والبَرَكة الخير النافع، وفي الأرض خيرات كثيرة فيها رزق الإنسان وماشيتِه، وفيها التراب والحجارة والمعادن، وكلها بركات. و { قدَّر } جعل قَدْراً، أي مقداراً، قال تعالىقد جعل اللَّه لكل شيء قدراً } الطلاق 3. والمقدار النصاب المحدود بالنوع أو بالكمية، فمعنى { قدر فيها أقواتها } أنه خلق في الأرض القُوى التي تنشأ منها الأقوات وخلق أصول أجناس الأقوات وأنواعها من الحَبّ للحبوب، والكَلأ والكمْأة، والنَّوى للثمار، والحرارةِ التي يَتأثر بها تولد الحيوان من الدواب والطير، وما يتولد منه الحيتان ودَوابّ البحار والأنهار.ومن التقدير تقدير كل نوع بما يصلح له من الأوقات من حر أو برد أو اعتدال. وأشار إلى ذلك قولهواللَّه أنبتكم من الأرض نباتاً } نوح 17 ويأتي القول فيه، وقولهوجعل لكم سرابيل تقيكم الحر } النحل 81 وقولهوجعل لكم من جلود الأنعام بيوتاً } النحل 80 الآية.وجمع الأقوات مضافاً إلى ضمير الأرض يفيد العموم، أي جميع أقواتها وعمومُه باعتبار تعدد المقتاتين، فللدواب أقوات، وللطير أقوات، وللوحوش أقوات، وللزواحف أقوات، وللحشرات أقوات، وجُعل للإنسان جميع تلك الأقوات مما استطاب منها كما أفاده قوله تعالىهو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعاً } ومضى الكلام عليه في سورة البقرة 29.وقوله { فِي أرْبَعَةِ أيَّامٍ } فذلكة لمجموع مدة خلق الأرض جِرمِها، وما عليها من رواسي، وما فيها من القوى، فدخل في هذه الأربعة الأيام اليومانِ اللذان في قولهفِي يَوْمَيْنِ } فصلت 9 فكأنه قيل في يَومين آخرين فتلك أربعة أيام، فقوله في { أرْبَعَة أيام } فذلكة، وعدل عن ذلك إلى ما في نسج الآية لقصد الإِيجاز واعتماداً على ما يأتي بعدُه من قولهفقضاهن سبع سماوات في يومين } فصلت 12، فلو كان اليومان اللذان قضى فيهما خلق السماوات زائدين على ستة أيام انقضت في خلق الأرض وما عليها لصار مجموع الأيام ثمانية، وذلك ينافي الإِشارة إلى عِدّة أيام الأسبوع، فإن اليوم السابع يوم فراغ من التكوين. وحكمة التمديد للخلق أن يقع على صفة كاملة متناسبة.و { سواء } قرأه الجمهور بالنصب على الحال من { أيام } أي كاملة لا نقص فيها ولا زيادة. وقرأه أبو جعفر مرفوعاً على الابتداء بتقدير هي سواء. وقرأه يعقوب مجروراً على الوصف لــــ { أيام }.و { للسائلين } يتنازعه كل من أفعال { جعل } و { بَارك } و { قَدر } فيكون { للسائلين } جمع سائل بمعنى الطالب للمعرفة، ويجوز أن يتعلق بمحذوف، أي بيّنا ذلك للسائلين ويجوز أن يكون لــــ { السائلين } متعلقاً بفعل { قدر فيها أقواتها } فيكون المراد بالسائلين الطالبين للقوت.