الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِي ٱلأَرْضِ فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَانُوۤاْ أَكْـثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثَاراً فِي ٱلأَرْضِ فَمَآ أَغْنَىٰ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ } * { فَلَمَّا جَآءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِٱلْبَيِّنَاتِ فَرِحُواْ بِمَا عِندَهُمْ مِّنَ ٱلْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ }

تفريع هذا الاستفهام عقب قولهوَيُرِيكُم آياتِهِ } غافر 81، يقتضي أنه مساوق للتفريع الذي قبله وهوفَأَيَّ آياتِ الله تُنكِرُونَ } غافر 81 فيقتضي أن السيْر المستفهم عنه بالإِنكار على تركه هو سير تحصل فيه آيات ودلائل على وجود الله ووحدانيته وكلا التفريعينْ متصل بقولهوَلِتَبلُغُوا عَلَيْهَا حَاجَةً في صُدُورِكُم وعَلَيها وعَلَى الفُلْكِ تُحْمَلُونَ } غافر 80، فذلك هو مناسبة الانتقال إلى التذكير بعبرة آثار الأمم التي استأصلها الله تعالى لما كذبت رُسله وجحدت آياته ونعمه.وحصل بذلك تكرير الإنكار الذي في قوله قبل هذاأوَلَمْ يَسِيروا في الأرْضِ فَيَنظُرُوا كَيفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ كانوا مِن قَبْلِهِم كَانُوا هم أَشَدَّ منهم قُوَّةً } غافر 21 الآية، فكان ما تقدم انتقالاً عقب آيات الإِنذار والتهديد، وكان هذا انتقالاً عقب آيات الامتنان والاستدلال، وفي كلا الانتقالين تذكير وتهديد ووعيد. وهو يشير إلى أنهم إن لم يكونوا ممن تزعهم النعم عن كفران مسديها كشأن أهل النفوس الكريمة فليكونوا ممن يردعهم الخوف من البطش كشأن أهل النفوس اللئيمة فليضعوا أنفسهم حيث يختارون من إحدى الخطتين.والقول في قوله { أفَلَمْ يَسِيرُوا في الأرْضِ } إلى قوله { وَءَاثَاراً في الأرْضِ } مثل القول في نظيره السابق في هذه السورة، وخولف في عطف جملة { أفَلَمْ يَسِيرُوا } بين هذه الآية فعطفت بالفاء للتفريع لوقوعها بعدما يصلح لأن يفرع عنه إنكار عدم النظر في عاقبة الذين من قبلهم بخلاف نظيرها الذي قبلها فقد وقع بعد إنذارهم بيوم الآزفة.وجملة { فَمَا أغْنَىٰ عَنْهم مَا كَانُوا يَكْسِبونَ } معترضة والفاء للتفريع على قوله { كَانُوا أكْثَرَ مِنْهُم } وهو كقوله تعالىهذا فليذوقوه حميم وغساق } ص 57 وقول عنترة
ولقد نَزَلْتِ فلا تظنّي غيره مني بمنزلة المحَبّ المكرَم   
وفائدة هذا الاعتراض التعجيل بإفادة أن كثرتهم وقوتهم وحصونهم وجناتهم لم تغن عنهم من بأس الله شيئاً.وجملة { فَلَمَّا جَاءَتْهُم رُسُلُهم بِالبيِنٰتِ } الآية مفرعة على جملة { كَانُوا أكْثَرَ مِنْهُم } أي كانوا كذلك إلى أن جاءتهم رسل الله إليهم بالبينات فلم يُصدقوهم فرأوا بأسنا. وجعلها في «الكشاف» جارية مجرى البيان والتفسير لقوله { فَمَا أغْنَىٰ عَنْهُم } ، وما سلَكْتُه أنا أحسن ومَوقع الفاء يؤيده.ولِما في لَمَّا من معنى التوقيت أفادت معنى أن الله لم يغير ما بهم من النعم العظمى حتى كذبوا رسله. وجواب لمّا جملة { فَرِحُوا بِمَا عِندَهُم مِنَ العِلْمِ } وما عطف عليها.واعلم أن المفسرين ذهبوا في تفسير هذه الآية طرائق قِدداً ذكر بعضها الطبري عن بعض سلف المفسرين. وأنهاها صاحب «الكشاف» إلى ستّ، ومال صاحب «الكَشف» إلى إحداها، وأبو حيان إلى أُخرى ولا حاجة إلى جلب ذلك.والطريقة التي يرجح سلوكها هي أن هنا ضمائر عشرة هي ضمائر جمع الغائبين وأن بعضها عائد لا محالة على { الَّذِينَ مِن قَبلِهم } وأن وجه النظم أن تكون الضمائر متناسقة غير مفككة فلذا يتعين أن تكون عائدة إلى معاد واحد، فالذين فَرحوا بما عندهم من العلم هم الذين جَاءتهم رُسُلهم بالبينات، وهم الذين حَاق بهم ما كانوا به يستهزئون، والذين رأوا بأس الله، فما بنا إلا أن نُبين معنى { فَرِحُوا بِمَا عِندَهُم مِنَ العِلمِ }.

السابقالتالي
2