الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ ٱللَّهُ ٱلَّذِي جَعَلَ لَكُمُ ٱلأَنْعَامَ لِتَرْكَـبُواْ مِنْهَا وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ } * { وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَلِتَـبْلُغُواْ عَلَيْهَا حَاجَةً فِي صُدُورِكُمْ وَعَلَيْهَا وَعَلَى ٱلْفُلْكِ تُحْمَلُونَ }

انتقال من الامتنان على الناس بما سخر لأجْلهم من نظام العوالم العليا والسفلى، وبما منحهم من الإِيجاد وتطوره وما في ذلك من الألطاف بهم وما أدمج فيه من الاستدلال على انفراده تعالى بالتصرف فكيف ينصرف عن عبادته الذين أشركوا به آلهة أخرى، إلى الامتنان بما سخر لهم من الإِبل لمنافعهم الجمّة خاصّة وعامّة، فالجملة استئناف سادس.والقول في افتتاحها كالقول في افتتاح نظائرها السابقة باسم الجلالة أو بضميره.والأنعام الإِبل والغنم والمعز والبقر. والمراد هنا الإِبلُ خاصة لقوله { وَلِتَبْلُغُوا عَلَيهَا حَاجَةً } وقوله { وَعَلَيْهَا وعَلَى الفُلْككِ تُحْمَلُونَ } وكانت الإِبل غالب مكاسبهم.والجَعْل الوضع والتمكين والتهيئة، فيحمل في كل مقام على ما يناسبه وفائدة الامتنان تقريب نفوسهم من التوحيد لأن شأن أهل المروءة الاستحياء من المنعم.وأدمج في الامتنان استدلال على دقيق الصنع وبليغ الحكمة كما دل عليه قولهوَيُرِيكُم آياتِهِ } غافر 81 أي في ذلك كله.واللام في { لكم } لام التعليل، أي لأجلكم وهو امتنان مُجمل يشمل بالتأمل كل ما في الإِبل لهم من منافع وهم يعلمونها إذا تذكّروها وعدُّوها. ثم فصّل ذلك الإِجمال بعضَ التفصيل بذكر المهمّ من النعم التي في الإِبل بقوله { لِتَرْكَبُوا منهَا } إلى { تحملون }. فاللام في { لِتَرْكَبُوا منهَا } لام كي وهي متعلقة بــــ { جعل } أي لركوبكم.و مِنْ في الموضعين هنا للتبعيض وهي صفة لمحذوف يدل عليه من أي بعضاً منها، وهو ما أعد للأسفار من الرواحل. ويتعلق حرف مِن بــــ { تركبوا } ، وتعلُّقُ مِن التبعيضية بالفعل تعلق ضعيف وهو الذي دعا التفتزاني إلى القول بأن مِن في مثله اسمٌ بمعنى بعضٍ، وتقدم ذلك عند قوله تعالىومن الناس من يقول آمنا باللَّه } في سورة البقرة 8.وأريد بالركوب هنا الركوب للراحة من تَعب الرِّجلين في الحاجة القريبة بقرينة مقابلته بقوله { وَلِتَبلُغُوا عَليهَا حَاجَةً في صُدُورِكُم }.وجملة { وَمِنْها تَأكُلُونَ } في موضع الحال من { الأنعام } ، أو عطف على المعنى من جملةِ { لِتَرْكَبُوا مِنْهَا } لأنها في قوة أن يقال تركبونَ منها، على وجه الاستئناف لبيان الإجمال الذي في { جَعَلَ لَكُمُ الأنْعٰمَ } ، وعلى الاعتبارين فهي في حيّز ما دخلت عليه لاَم كي فمعناها ولتأكلوا منها.وجملة { ولكم فيها منٰفِع } عطف على جملة { وَمِنْهَا تَأكُلُونَ } ، والمعنى أيضاً على اعتبار التعليل كأنه قيل ولتجتنوا منافعها المجعولة لكم وإنما غيّر أسلوب التعليل تفنناً في الكلام وتنشيطاً للسامع لئلا يتكرر حرف التعليل تكراراتٍ كثيرة.والمنافع جمع منفعة، وهي مَفْعلة من النفع، وهي الشيء الذي ينتفع به، أي يستصلح به. فالمنافع في هذه الآية أريد بها ما قابل منافع أكل لحومها في قوله { وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ } مثل الانتفاع بأوبارها وألبانها وأثمانها وأعواضِها في الديَات والمهور، وكذلك الانتفاع بجلودها باتخاذها قباباً وغيرَها وبالجلوس عليها، وكذلك الانتفاع بجَمال مرآها في العيون في المسرح والمراح، والمنافع شاملة للركوب الذي في قوله { لِتَركبوا مِنهَا } ، فذكر المنافع بعد { لِتَركبوا منها } تعميم بعد تخصيص كقوله تعالى

السابقالتالي
2