الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِيۤ آيَاتِ ٱللَّهِ أَنَّىٰ يُصْرَفُونَ } * { ٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ بِٱلْكِـتَابِ وَبِمَآ أَرْسَلْنَا بِهِ رُسُلَنَا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ } * { إِذِ ٱلأَغْلاَلُ فِيۤ أَعْنَاقِهِمْ وٱلسَّلاَسِلُ يُسْحَبُونَ } * { فِي ٱلْحَمِيمِ ثُمَّ فِي ٱلنَّارِ يُسْجَرُونَ }

بنيت هذه السورة على إبطال جدل الذين يجادلون في آيات الله جدال التكذيب والتورّك كما تقدم في أول السورة إذ كان من أولها قولهما يجادل في آيات الله إلا الذين كفروا } غافر 4 وتكرر ذلك خمس مرات فيها، فنبه على إبطال جدالهم في مناسبات الإِبطال كلها إذ ابتدىء بإبطاله على الإِجمال عقب الآيات الثلاث من أولها بقولهما يجادل في آيات الله إلا الذين كفروا } غافر 4 ثم بإبطاله بقولهالذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان أتاهم كبر مقتاً عند الله } غافر 35، ثم بقولهإنَّ الذين يُجادلُون في ءايٰتِ الله بِغَير سُلطانٍ أتاهم إن في صُدُورهم إلاَّ كِبْرٌ } غافر 56 ثم بقوله { ألَمْ تَرَ إلى الَّذِين يُجٰدِلُون في آياتِ الله أنَّى يُصْرَفُون }.وذلك كله إيماء إلى أن الباعث لهم على المجادلة في آيات الله هو ما اشتمل عليه القرآن من إبطال الشرك فلذلك أعقب كل طريقة من طرائق إبطال شركهم بالإِنحاء على جدالهم في آيات الله، فجملة { ألَمْ تَرَ إلى الَّذِين يُجٰدِلُون في آياتِ الله } مستأنفة للتعجيب من حال انصرافهم عن التصديق بعد تلك الدلائل البيّنة. والاستفهام مستعمل في التقرير وهو منفي لفظاً، والمراد به التقرير على الإِثبات، كما تَقدم غير مرة، منها عند قولهقال أو لم تؤمن } في سورة البقرة 260.والرؤية عِلمية، وفعلها معلق عن العمل بالاستفهام بــــ { أنَّىٰ يُصْرَفُونَ } ، و أنَّى بمعنى كيف، وهي مستعملة في التعجيب مثل قولهأنى يكون لي ولد ولم يمسسني بشر } آل عمران 47 أي أرأيت عجيب انصرافهم عن التصديق بالقرآن بصارف غير بيّن منشَؤه، ولذلك بني فعل { يصرفون } للنائب لأن سبب صرفهم عن الآيات ليس غير أنفسهم. ويجوز أن تكون أنَّى بمعنى أين، أي أَلا تعجبُ من أين يصرفهم صارف عن الإِيمان حتى جادلوا في آيات الله مع أن شُبَه انصرافهم عن الإِيمان منتفية بما تكرر من دلائل الآفاق وأنفسِهم وبما شاهدوا من عاقبة الذين جادلوا في آيات الله ممن سبقهم، وهذا كما يقول المتعجب من فعل أحد «أين يُذْهَب بك».وبناء فعل { يصرفون } للمجهول على هذا الوجه للتعجيب من الصارف الذي يصرفهم وهو غير كائن في مكان غير نفوسهم.وأبدل { الَّذِينَ كَذَّبُوا بالكِتٰبِ } من { الَّذِينَ يُجٰدِلُون } لأن صلتي الموصولين صادقتان على شيء واحد، فالتكذيب هو ما صْدَقُ الجدال، والكتاب القرآن.وعَطْف { وَبِمَا أرْسَلنا به رُسُلنا } يجوز أن يكون على أصل العطف مقتضياً المغايرة، فيكون المراد وبما أرسلنا به رسلنا من الكتب قبل نزول القرآن، فيكون تكذيبهم ما أُرسلت به الرسل مراداً به تكذيبهم جميعَ الأديان كقوله تعالىوما قدروا اللَّه حق قدره إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء } الأنعام 91، ويحتمل أنه أريد به التكذيب بالبعث فلعلهم لما جاءهم محمد صلى الله عليه وسلم بإثبات البعث سألوا عنه أهل الكتاب فأثبتوه فأنكر المشركون جميع الشرائع لذلك.

السابقالتالي
2