الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ وَمَا يَسْتَوِي ٱلأَعْـمَىٰ وَٱلْبَصِيرُ وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ وَلاَ ٱلْمُسِيۤءُ قَلِيـلاً مَّا تَتَذَكَّرُونَ }

لما نزّلهم منزلة من لا يعلم ضرب مثلاً لهم وللمؤمنين، فمثَل الذين يجادلون في أمر البعث مع وضوح إمكانه مَثَل الأعمى، ومثل المؤمنين الذين آمنوا به حال البصير، وقد علم حال المؤمنين من مفهوم صفة { أكثر الناس } لأن الأكثرين من الذين لا يعلمون يقابلهم أقلون يعلمون. والمعنى لا يستوي الذين اهتدوا والذين هم في ضلال، فإطلاق الأعمى والبصير استعارة للفريقين اللذين تضمنهما قولهولكنَّ أكثرَ النَّاسِ لا يعلَمون } غافر 57.ونفيُ الاستواء بينهما يقتضي تفضيل أحدهما على الآخر كما قدمنا في قوله تعالىلا يستوي القاعدون من المؤمنين } الآية في سورة النساء 95، ومن المتبادر أن الأفضل هو صاحب الحال الأفضل وهو البصير إذ لا يختلف الناس في أن البصَر أشرف من العمى في شخص واحد، ونفي الاستواء بدون متعلِّق يقتضي العموم في متعلقاته، لكنه يُخص بالمُتعلِّقات التي يدل عليها سياق الكلام وهي آيات الله ودلائل صفاته، ويسمى مثل هذا العموم العمومَ العرفي، وتقدم نظيرها في سورة فاطر 19. وقوله { والذينَ ءامنوا وعَمِلُوا الصَّالحاتِ ولا المُسِيء } زيادة بيان لفضيلة أهل الإِيمان بذكر فضيلتهم في أعمالهم بعد ذكر فضلهم في إدراك أدلة إمكان البعث ونحوه من أدلة الإِيمان. والمعنى وما يستوي الذين آمنوا وعملوا الصالحات والمسيئون، أي في أعمالهم كما يؤذن بذلك قوله { وعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَلا المُسِيء } ، وفيه إيماء إلى اختلاف جزاء الفريقين وهذا الإِيماء إدماج للتنبيه على الثواب والعقاب.والواو في قوله { والذين ءامنوا } عاطفةٌ الجملةَ على الجملة بتقدير وما يستوي الذين آمنوا.والواو في قوله { ولا المُسِيء } عاطفة { المسيء } على { الذين آمنوا } عطفَ المفرد على المفرد، فالعطف الأول عطف المجموع مثل قوله تعالىهو الأول والآخر والظاهر والباطن } الحديد 3.وإنما قدم ذكر الأعمى على ذكر البصير مع أن البصر أشرف من العمى بالنسبة لذات واحدة، والمشبهَ بالبصير أشرفُ من المشبه بالأعمى إذ المشبه بالبصير المؤمنون، فقدم ذكر تشبيه الكافرين مراعاة لكون الأهمّ في المقام بيانَ حال الذين يجادلون في الآيات إذ هم المقصود بالموعظة.وأما قوله { والذين ءامنوا وعَمِلوا الصَّالحاتِ ولا المُسِيء } فإنما رتب فيه ذكر الفريقين على عكس ترتيبه في التشبيه بالأعمى والبصير اهتماماً بشرف المؤمنين.وأعيدت لا النافية بعد واو العطف على النفي، وكان العطف مغنياً عنها فإعادتها لإِفادة تأكيد نفي المساواة ومقام التوبيخ يقتضي الإِطناب، ولذلك تُعدّ لا في مثله زائدة كما في «مغني اللبيب»، وكان الظاهر أن تقع لا قبل الذين آمنوا، فعدُل عن ذلك للتنبيه على أن المقصود عدم مساواة المسيء لمن عَمِل الصالحات، وأن ذكر الذين آمنوا قبل المسيء للاهتمام بالذين آمنوا ولا مُقتضي للعدول عنه بعد أن قُضي حق الاهتمام بالذين سبق الكلام لأجل تمثيلهم، فحصل في الكلام اهتمامان.

السابقالتالي
2