الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ كَـذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَٱلأَحْزَابُ مِن بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُـلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجَادَلُوا بِٱلْبَاطِلِ لِيُدْحِضُواْ بِهِ ٱلْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ }

جملة { كَذَّبَتْ قَبْلَهم قَوْم نُوحٍ } وما بعدها بيان لجملةفلا يغرُرك تقلُّبُهُمْ في ٱلْبِلاَدِ } غافر 4 باعتبار التفريع الواقع عقب هاته الجمل من قوله { فأخذتهم فكيف كانَ عِقَاب } ، فالمعنى سبقتهم أمم بتكذيب الرسل كما كذبوك وجادلوا بالباطل رسلهم كما جادلك هؤلاء فأخذتهم فكيف رأيت عقابي إياهم كذلك مثل هؤلاء في إمهالهم إلى أن آخذهم.والأحزاب جمع حِزب بكسر الحاء وسكون الزاي وهو اسم للجماعة الذين هم سواء في شأن من اعتقادٍ أو عمل أو عادةٍ. والمراد بهم هنا الأمم الذين كانت كل أمة منهم متفقة في الدين، فكل أمة منهم حزب فيما اتفقت عليه.وفي قوله { مِن بَعْدِهم } إشارة إلى أن قوم نوح كانوا حزباً أيضاً فكانوا يدينون بعبادة الأصنام يغوث، ويعوق، ونسر، وودَ، وسُواع، وكذلك كانت كل أمة من الأمم التي كذبت الرسل حزباً متفقين في الدين، فعادٌ حزب، وثمود حزب، وأصحاب الأيكة حزب، وقوم فرعون حزب. والمعنى أنهم جميعاً اشتركوا في تكذيب الرسل وإن تخالف بعض الأمم مع بعضها في الأديان. وفي الجمع بين { قبلهم } و { مِن بَعْدِهِم } محسِّن الطباق في الكلام.والهمّ العزم. وحقه أن يعدّى بالباء إلى المعاني لأن العزم فعل نفساني لا يتعلق إلا بالمعاني. كقوله تعالىوهموا بما لم ينالوا } التوبة 74، ولا يتعدّى إلى الذوات، فإذا عدّي إلى اسم ذات تعينّ تقدير معنى من المعاني التي تلابس الذات يدل عليها المقام كما في قوله تعالىولقد همت به } يوسف 24 أي همّت بمضاجعته. وقد يذكر بعد اسم الذات ما يدل على المعنى الذي يُهَمّ به كما في قوله هنا { ليأخذوه } إن الهمّ بأخذه، وارتكابُ هذا الأسلوب لقصد الإجمال الذي يعقبه التفصيل، ومثله تعلق أفعال القلوب بالأسماء في ظننتك جائياً، أي ظننت مجيئك.والأخذ يستعمل مجازاً بمعنى التصرف في الشيء بالعقاب والتعذيب والقتل ونحو ذلك من التنكيل، قال تعالىفأخذهم أخذة رابية } الحاقة 10 ويقال للأسير أخيذ، وللقتيل أخيذ.واختير هذا الفعل هنا ليشمل مختلف ما هَمّت به كل أمة برسولها من قتل أو غيره كما قال تعالىوإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبوتك أو يقتلوك أو يخرجوك } الأنفال 30. والمعنى أن الأُمم السابقة من الكفرة لم يقتصروا على تكذيب الرسول بل تجاوزوا ذلك إلى غاية الأذى من الهمّ بالقتل كما حكى الله عن ثمودقالوا تقاسموا باللَّه لنبيتنه وأهله ثم لنقولن لوليه ما شهدنا مهلك أهله وإنا لصادقون } النمل 49. وقد تآمر كفار قريش على رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة دار الندوة ليقتلوه أن يتجمع نفر من جَميع عشائرهم فيضربوه بالسيوف ضربة رجل واحد كيلا يستطيع أولياؤه من بني هاشم الأخذ بثأره، فأخذ الله الأمم عقوبة لهم على همهم برسلهم فأهلكهم واستأصلهم.

السابقالتالي
2