الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ وَإِذْ يَتَحَآجُّونَ فِي ٱلنَّـارِ فَيَقُولُ ٱلضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ ٱسْتَكْـبَرُوۤاْ إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنتُم مُّغْنُونَ عَنَّا نَصِيباً مِّنَ ٱلنَّارِ } * { قَالَ ٱلَّذِينَ ٱسْتَكْبَرُوۤاْ إِنَّا كُلٌّ فِيهَآ إِنَّ ٱللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ ٱلْعِبَادِ }

يجوز أن يكون { إذ } معمولاً لــــ اذْكُرْ محذوفٍ فيكون عطفاً على جملة { وأنذرهم يوم الأزِفَةِ } ، والضميرُ عائداً إلىالذِّينَ يُجٰدِلُون في ءايٰتِ الله بِغَيْرِ سُلطٰنٍ } غافر 35 وما بين هذا وذاك اعتراض واستطراد لأنها قصد منها عظة المشركين بمن سبقهم من الأمم المكذبين فلما استُوفي ذلك عاد الكلام إليهم. ويفيد ذلك صريحَ الوعيد للمشركين بعد أن ضُربت لهم الأمثال كما قال تعالىوللكافرين أمثالها } محمد 10، وقد تكرر في القرآن موعظة المشركين بمثل هذا كقوله تعالىإذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا } الآية في سورة البقرة 166، وقولهقالت أخراهم لأولاهم ربنا هؤلاء أضلونا فآتهم عذاباً ضعفاً من النار } الآية في سورة الأعراف 38. ويجوز أن تكون { وَإذْ يَتَحَآجُّونَ } عطفاً على جملةويوم تقوم الساعة أدخلوا ءالَ فرعونَ أشدَّ العذاب } غافر 46 لأن إذْ و يومَ كليهما ظرف بمعنى حين، فيكون المعنى وحين تقوم الساعة يقال أدخلوا آل فرعون أشدّ العذاب، وحين يتحاج أهل النار فيقول الضعفاء الخ.وقرن { فَيَقُولُ الضُّعَفٰؤُا } بالفاء لإِفادة كون هذا القول ناشئاً عن تحاجّهم في النار مع كون ذلك دَالاً على أنه في معنى متعلَّق { إذ } ، وهذا استعمال من استعمالات الفاء التي يسميها النحاة زائدة، وأثبت زيادتها جماعة منهم الأخفش والفراء والأعلم وابن بَرهان، وحكاه عن أصحابه البصريين. وضمير يتحاجون } على هذا الوجه عائد إلى آل فرعون. ويفيد مع ذلك تعريضاً بوعيد المشركين كما هو مقتضى المماثلة المسوقة وضمير { يتحاجون } غير عائد إلىآلَ فِرعونَ } غافر 46 لأن ذلك يأباه قولهوقال الذين في النار لِخَزنة جهنم ادعوا ربكم } غافر 49 وقولهأَوَلَمْ تَكُ تَأتيكم رُسُلكم بِالبَيِّنٰتِ } غافر 50 ولم يَأت آل فرعون إلا رسول واحد هو موسى عليه السلام فيعود ضمير { يتحاجون } إلى معلوم من المقام وهم أهل النار.والتحاجّ الاحتجاج من جانبين فأكثرَ، أي إقامة كل فريق حجته وهو يقتضي وقوع خلاف بين المتحاجّين إذ الحجة تأييد لدعوى لدفع الشك في صحتها.والضعفاء عامة الناس الذين لا تصرُّف لهم في أمور الأمة. والذين استكبروا سادة القوم، أي الذين تكبروا كِبْراً شديداً، فالسين والتاء فيه للمبالغة. وقول الضعفاء للكبراء هذا الكلامَ يحتمل أنه على حقيقته فهو ناشىء عما اعتادوه من اللجإ إليهم في مهمهم حين كانوا في الدنيا فخالوا أنهم يتولون تدبير أمورهم في ذلك المكان ولهذا أجاب الذين استكبروا بما يفيد أنهم اليوم سواء في العجز وعدم الحيلة فقالوا { إنَّا كُلٌّ فِيهَآ } أي لو أغنينا عنكم لأغنينا عن أنفسنا.وتقديم قولهم { إنَّا كُنَّا لَكُم تبعَاً } على طلب التخفيف عنهم من النار، مقدمة للطلب لقصد توجيهه وتعليله وتذكيرهم بالولاء الذي بينهم في الدنيا، يلهمهم الله هذا القول لافتضاح عجز المستكبرين أن ينفعوا أتباعهم تحقيراً لهم جزاء على تعاظمهم الذي كانوا يتعاظمون به في الدنيا.

السابقالتالي
2 3