الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ وَيٰقَوْمِ مَا لِيۤ أَدْعُوكُـمْ إِلَى ٱلنَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِيۤ إِلَى ٱلنَّارِ } * { تَدْعُونَنِي لأَكْـفُرَ بِٱللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَاْ أَدْعُوكُمْ إِلَى ٱلْعَزِيزِ ٱلْغَفَّارِ } * { لاَ جَرَمَ أَنَّمَا تَدْعُونَنِيۤ إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي ٱلدُّنْيَا وَلاَ فِي ٱلآخِرَةِ وَأَنَّ مَرَدَّنَآ إِلَى ٱللَّهِ وَأَنَّ ٱلْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ ٱلنَّارِ }

أعاد نداءهم وعطفت حكايته بواو العطف للإشارة إلى أن نداءه اشتمل على ما يقتضي في لغتهم أن الكلام قد تخطى من غرض إلى غرض وأنه سَيَطْرَق ما يغاير أول كلامه مغايرة مَّا تُشبه مغايرة المتعاطفين في لغة العرب، وأنه سيرتقي باستدراجهم في دَرَج الاستدلال إلى المقصود بعد المقدمات، فانتقل هنا إلى أن أنكر عليهم شيئاً جرى منهم نحوه وهو أنهم أعقبوا موعظتَهُ إياهم بدعوته للإقلاع عن ذلك وأن يتمسك بدينهم وهذا شيء مطوي في خلال القصة دلت عليه حكاية إنكاره عليهم، وهو كلامُ آيسٍ من استجابتهم لقوله فيهفَسَتَذكُرُونَ مَا أقولُ لَكُم } غافر 44، ومُتَوقِّعٍ أذاهم لقولهوَأُفَوِّضُ أمْرِي إلَى الله } غافر 44، ولقوله تعالى آخر القصةفوقاه الله سيئات ما مكروا } غافر 45. فصرّح هنا وبينّ بأنه لم يزل يدعوهم إلى اتباع ما جاء به موسى وفي اتّباعه النجاة من عذاب الآخرة فهو يدعوهم إلى النجاة حقيقة، وليس إطلاق النجاة على ما يدعوهم إليه بمجاز مرسل بل يدعوهم إلى حقيقة النجاة بوسائط.والاستفهام في { مَا لِي أدْعُوكم إلى النَّجوٰةِ } استفهام تعجبي باعتبار تقييده بجملة الحال وهي { وتَدْعُونَنِي إلَى النَّارِ } فجملة { وتَدْعُونَنِي إلَى النَّارِ } في موضع الحال بتقدير مبتدأ، أي وأنتم تدعونني إلى النار وليست بعطف لأن أصل استعمال ما لي أفعل، وما لي لا أفعل ونحوه، أن يكون استفهاماً عن فعل أو حالٍ ثبت للمجرور باللام وهي لام الاختصاص، ومعنى لام الاختصاص يَكسب مدخولها حالةً خَفيًّا سببُها الذي عُلق بمدخول اللام نحو قوله تعالىما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل اللَّه اثّاقلتم إلى الأرض } التوبة 38ما لي لا أرى الهدهد } النمل 20 وقولك لمن يستوقفك ما لك؟ فتكون الجملة التي بعد اسم الاستفهام وخبره جملة فعلية.وتركيب ما لي ونحوه، هو كتركيب هل لك ونحوه في قوله تعالىفقل هل لك إلى أن تزكى } النازعات 18 وقول كعب بن زهير
ألا بلغا عني بُجيرا رسالة فهل لك فيما قلتَ ويحْك هلْ لَكَ   
فإذا قامت القرينة على انتفاء إرادة الاستفهام الحقيقي انصرف ذلك إلى التعجب من الحالة، أو إلى الإِنكار أو نحو ذلك. فالمعنى هنا على التعجب يعني أنه يعجب من دعوتهم إياه لدينهم مع ما رأوا من حرصه على نصحهم ودعوتهم إلى النجاة وما أتاهم به من الدلائل على صحة دعوته وبطلان دعوتهم.وجملة { تَدْعُونَنِي لأكْفُرَ بالله } بيان لجملة { وتدعونني إلى النار } لأن الدعوة إلى النار أمر مجمل مستغرب فبينه ببيان أنهم يدعونه إلى التلبس بالأسباب الموجبة عذاب النار. والمعنى تدعونني للكفر بالله وإشراك ما لا أعلم مع الله في الإِلهية.ومعنى { مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ } ما ليس لي بصحته أو بوجوده علم، والكلام كناية عن كونه يعلم أنها ليست آلهة بطريق الكناية بنفي اللازم عن نفي الملزوم.

السابقالتالي
2 3