الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ وَلَقَدْ جَآءَكُـمْ يُوسُفُ مِن قَبْلُ بِٱلْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِّمَّا جَآءَكُـمْ بِهِ حَتَّىٰ إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَن يَبْعَثَ ٱللَّهُ مِن بَعْدِهِ رَسُولاً كَذَلِكَ يُضِلُّ ٱللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُّرْتَابٌ } * { ٱلَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِيۤ آيَاتِ ٱللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ كَبُرَ مَقْتاً عِندَ ٱللَّهِ وَعِندَ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ كَذَلِكَ يَطْبَعُ ٱللَّهُ عَلَىٰ كُـلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ }

وَلَقَدْ جَآءَكُـمْ يُوسُفُ مِن قَبْلُ بِٱلْبَيِّنَـٰتِ فَمَا زِلْتُمْ فِى شَكٍّ مِّمَّا جَآءَكُـمْ بِهِ حَتَّىٰ إِذَا هَلَكَ قُلْتُم لَن يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعدِهِ رَسُولاً }.توسم فيهم قلة جدوى النصح لهم وأنهم مصممون على تكذيب موسى فارتقى في موعظتهم إلى اللوم على ما مضى، ولتذكيرهم بأنهم من ذرية قوم كذّبوا يوسف لما جاءهم بالبينات فتكذيب المرشدين إلى الحق شنشنة معروفة في أسلافهم فتكون سجية فيهم. وتأكيد الخبر بــــ قد ولام القسم لتحقيقه لأنهم مظنة أن ينكروه لبعد عهدهم به. فالمجيء في قوله { جاءكم } مستعار للحصول والظهور والباء للملابسة، أي ولقد ظهر لكم يوسف ببيّنات. ولا يلزم أن يكون إظهار البينات مقارناً دعوةً إلى شرع لأنه لما أظهر البينات وتحققوا مكَانتهُ كان عليهم بحكم العقل السليم أن يتبينوا آياته ويستهدوا طريقَ الهدى والنجاة، فإن الله لم يأمر يوسف بأن يدعو فرعون وقومه، لحكمة لعلَّها هي انتظار الوقت والحالِ المناسب الذي ادخره الله لموسى عليه السلام.والبيّنات الدلائل البينة المظهرة أنه مصطَفى من الله للإِرشاد إلى الخير، فكان على كل عاقل أن يتبع خطاه ويترسم آثاره ويسأله عما وراء هذا العالم الماديِّ، بناء على أن معرفة الوحدانية واجبة في أزمان الفترات إما بالعقل، أو بما تواتر بين البشر من تعاليم الرسل السابقين على الخلاف بين المتكلمين.والبينات إخباره بما هو مغيب عنهم من أحوالهم بطريق الوحي في تعبير الرُّؤَى، وكذلك آية العصمة التي انفرد بها من بينهم وشهدت له بها امرأة العزيز وشاهِدُ أهلها حتى قال المَلِكائتوني به استخلصه لنفسي } يوسف 54، فكانت دلائل نبوءة يوسف واضحة ولكنهم لم يستخلصوا منها استدلالاً يقتفون به أثره في صلاح آخرتهم، وحرصوا على الانتفاع به في تدبير أمور دنياهم فأودعوه خزائن أموالهم وتدبير مملكتهم، فقال له الملِكإنك اليوم لدينا مكين أمين } يوسف 54. ولم يخطر ببالهم أن يسْترشدوا به في سلوكهم الديني. فإن قلت إذا لم يهتدوا إلى الاسترشاد بيوسف في أمور دينهم وألهاهم الاعتناء بتدبير الدنيا عن تدبير الدين فلماذا لم يدْعُهم يوسف إلى الاعتقاد بالحق واقتصر على أن سَأَل من الملكاجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم } يوسف 55. قلت لأن الله لم يأمره بالدعوة للإِرشاد إلا إذا سُئل منه ذلك لحكمة كما علمت آنفاً، فأقامه الله مقام المفتي والمرشد لمن استرشد لا مقام المحتسب المغيِّر للمنكر، والله أعلم حيث يجعل رسالته } الأنعام 124، فلما أقامه الله كذلك وعَلِم يوسف من قول الملكإنك اليوم لدينا مكين أمين } يوسف 54 أن الملك لا يريد إلا تدبير مملكته وأمواله، لم يسأله أكثر مما يفي له بذلك. وأما وجوب طلبهم المعرفة والاسترشاد منه فذلك حق عليهم، فمعنى { فَمَا زِلْتُم في شَكّ مِمَّا جَاءَكُم به } الإِنحاء على أسلافهم في قلة الاهتمام بالبحث عن الكمال الأعلى وهو الكمال النفساني باتباع الدين القويم، أي فما زال أسلافكم يشعرون بأن يوسف على أمر عظيم من الهُدى غير مألوف لهم ويهرعون إليه في مهماتهم ثم لا تعزم نفوسهم على أن يطلبوا منه الإرشاد في أمور الدين.

السابقالتالي
2 3 4 5