الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ وَقَالَ ٱلَّذِيۤ آمَنَ يٰقَوْمِ إِنِّيۤ أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِّثْلَ يَوْمِ ٱلأَحْزَابِ } * { مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَٱلَّذِينَ مِن بَعْدِهِمْ وَمَا ٱللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِّلْعِبَادِ }

لما كان هذا تكملة لكلام الذي آمن ولم يكن فيه تعريج على محاورة فرعون على قولهمَا أريكم إلاَّ مَا أرَىٰ } غافر 29 الخ وكان الذي آمن قد جعل كلام فرعون في البَيْن واسترسل يكمل مقالته عُطف فعل قوله بالواو ليتصل كلامه بالكلام الذي قبله، ولئلا يتوهم أنه قصد به مراجعة فرعون ولكنه قصد إكمال خطابه، وعبر عنه بالذي آمن لأنه قد عرف بمضمون الصلة بعد ما تقدم. وإعادته نداء قومه تأكيد لما قصده من النداء الأول حسبما تقدم.وجعل الخوف وما في معناه يتعدى إلى المخوف منه بنفسه وإلى المخوف عليه بحرف على قال لبيد يرثي أخاه أربد
أخشَى على أرْبَدَ الحُتوفَ ولا أخشَى عليه الرياحَ والمطرا   
و { يَوْمِ الأحْزَابِ } مراد به، الجنس لا يومٌ معين بقرينة إضافته إلى جمعٍ أزمانُهم متباعدة. فالتقدير مثل أيام الأحزاب، فإفراد يوم للإِيجاز، مثل بطن في قول الشاعر وهو من شواهد سيبويه في باب الصفة المشبهة بالفاعل
كلُوا في بعض بَطْنِكم تَعِفُّوا فإن زَمانكم زمنٌ خميص   
والمراد بأيام الأحزاب أيام إهلاكهم والعرب يطلقون اليوم على يوم الغالب ويوم المغلوب. والأحزاب الأمم لأن كل أمة حِزبٌ تجمعهم أحوال واحدة وتناصر بينهم فلذلك تسمى الأمة حزباً، وتقدم عند قوله تعالىكل حزب بما لديهم فرحون } في سورة المؤمنون53. والدأْب العادة والعمل الذي يدأب عليه عامله، أي يلازمه ويكرره، وتقدم في قوله تعالىكدأب آل فرعون } في أول آل عمران 11. وانتصب { مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ } على عطف البيان من { مِثلَ يَوْمِ الأحزابِ } ولما كان بياناً له كان ما يضافان إليه متحداً لا محالة فصار الأحزاب و الدأب في معنى واحد وإنما يتم ذلك بتقدير مضاف متحد فيهما، فالتقدير مثلَ يومِ جزاء الأحزاب. مثلَ يومِ جزاء دأب قوم نوح وعاد وثمود، أي جزاء عملهم. ودأبُهم الذي اشتركوا فيه هو الاشراك بالله.وهذا يقتضي أن القبط كانوا على علم بما حلّ بقوم نوح وعاد وثمود، فأما قوم نوح فكان طوفانهم مشهوراً، وأما عاد وثمود فلقرب بلادهم من البلاد المصرية وكان عظيماً لا يخفى على مجاوريهم.وجملة { وَمَا الله يُرِيدُ ظُلْمَاً لِلْعِبَادِ } معترضة، والواو اعتراضية وهي اعتراض بين كلاميه المتعاطفين، أي أخاف عليكم جزاءً عادلاً من الله وهو جزاء الإشراك.والظلم يطلق على الشركإن الشرك لظلم عظيم } لقمان 13، ويطلق على المعاملة بغير الحق، وقد جمع قوله { وما الله يريد ظلماً للعباد } نفي الظلم بمعنييه على طريقة استعمال المُشترك في معنييه. وكذلك فعل { يريد } يطلق بمعنى المشيئة كقولهما يريد الله ليجعل عليكم من حرج } المائدة 6 ويطلق بمعنى المحبة كقولهما أريد منهم من رزق } الذاريات 57، فلما وقع فعل الإِرادة في حيّز النفي اقتضى عموم نفي الإِرادة بمعنييها على طريقة استعمال المشترك في معنييه، فالله تعالى لا يحب صدور ظلم من عباده ولا يشاء أن يَظلِم عبادَه.

السابقالتالي
2