الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ غَافِرِ ٱلذَّنبِ وَقَابِلِ ٱلتَّوْبِ شَدِيدِ ٱلْعِقَابِ ذِي ٱلطَّوْلِ لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ إِلَيْهِ ٱلْمَصِيرُ }

أجريت على اسم الله ستة نعوت معارفُ، بعضُها بحرف التعريف وبعضها بالإضافة إلى معرّف بالحرف.ووصْفُ الله بوصفيالعَزِيز العَليم } غافر 2 هنا تعريض بأن منكري تنزيل الكتاب منه مغلوبون مقهورون، وبأن الله يعلم ما تكنّه نفوسهم فهو محاسبهم على ذلك، ورَمْزٌ إلى أن القرآن كلام العزيز العليم فلا يقدر غير الله على مثله ولا يعلم غير الله أن يأتي بمثله.وهذا وجه المخالفة بين هذه الآية ونظيرتها من أول سورة الزمر التي جاء فيها وصفالعَزِيز الحكيم } الزمر 1 على أنه يتأتى في الوصف بالعلم ما تأتَّى في بعض احتمالات وصف { الحكيم } في سورة الزمر. ويتأتى في الوصفين أيضاً ما تَأَتَّى هنالك من طريقي إعجاز القرآن. وفي ذكرهما رمز إلى أن الله أعلم حيث يجعل رسالَته وأنه لا يجاري أهواء الناس فيمن يرشحونه لذلك من كبرائهموقالوا لولا نُزِّل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم } الزخرف 31. وفي إِتْباع الوصفين العظيمين بأوصاف { غافر الذنب وقَابِل التَّوْب شَديد العِقاب ذِي الطَّول } ترشيح لذلك التعريضِ كأنه يقول إن كنتم أذنبتم بالكفر بالقرآن فإن تدارك ذنبكم في مكنتكم لأن الله مقرَّر اتصافه بقبول التوبة وبغفران الذنب فكما غفر لمن تابوا من الأمم فقبل إيمانهم يغفر لمن يتوب منكم.وتقديم { غافر } على { قابل التوب } مع أنه مرتب عليه في الحصول للاهتمام بتعجيل الإِعلام به لمن استعدّ لتدارك أمره فوصفُ { غافر الذنب وقابل التوب } تعريض بالترغيب، وصِفتا { شَدِيد العقاب ذِي الطَّول } تعريض بالترهيب. والتوبُ مصدر تاب، والتوب بالمثناة والثوب بالمثلثة والأَوْب كلها بمعنى الرجوع، أي الرجوع إلى أمر الله وامتثاله بعد الابتعاد عنه. وإنما عطفت صفة { وقَابِل التَّوْب } بالواو على صفة { غَافِر الذنب } ولم تُفْصَل كما فُصِلت صفتاالعليمِ } غافر 2 { غافرِ الذنب } وصفة { شديد العقاب } إشارة إلى نكتة جليلة وهي إفادة أن يجمَع للمذنب التائب بين رحمتين بين أن يقبل توبته فيجعلها له طاعة، وبين أن يمحو عنه بها الذنوب التي تاب منها وندِم على فعلها، فيصبحَ كأنه لم يفعلها. وهذا فضل من الله. وقوله { شديد العقاب } إفضاء بصريح الوعيد على التكذيب بالقرآن لأن مجيئه بعد قولهتنزيلُ الكِتَاب مِن الله } غافر 2 يفيد أنه المقصود من هذا الكلام بواسطة دلالة مستتبعات التراكيب.والمراد { بغافر } و { قابل } أنه موصوف بمدلوليهما فيما مضى إذ ليس المراد أنه سيغفر وسيقبل، فاسم الفاعل فيهما مقطوع عن مشابهة الفعل، وهو غير عامل عمَل الفعل، فلذلك يكتسِبُ التعريف بالإِضافة التي تزيد تقريبه من الأسماء، وهو المحمل الذي لا يناسب غيرُهُ هنا. و { شديد } صفة مشبَّهة مضافة لفاعلها، وقد وقعت نعتاً لاسم الجلالة اعتداداً بأن التعريف الداخل عَلى فاعل الصفة يقوم مقام تعريف الصفة فلم يخالَف ما هو المعروف في الكلام من اتحاد النعت والمنعوت في التعريف واكتساب الصفة المشبهة التعريفَ بالإِضافة هو قول نحاة الكوفة طرداً لباب التعريف بالإضافة، وسيبَويه يجوز اكتساب الصفات المضافةِ التعريفَ بالإِضافة إلاّ الصفة المشبهة لأن إضافتها إنما هي لفاعلها في المعنى لأن أصل ما تضاف إليه الصفة المشبهة أنه كان فاعلاً فكانت إضافتها إليه مجرد تخفيف لفظي والخطب سهل.

السابقالتالي
2