الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ رَفِيعُ ٱلدَّرَجَاتِ ذُو ٱلْعَرْشِ يُلْقِي ٱلرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَىٰ مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنذِرَ يَوْمَ ٱلتَّلاَقِ } * { يَوْمَ هُم بَارِزُونَ لاَ يَخْفَىٰ عَلَى ٱللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِّمَنِ ٱلْمُلْكُ ٱلْيَوْمَ لِلَّهِ ٱلْوَاحِدِ ٱلْقَهَّارِ }

{ رَفِيعُ ٱلدَّرَجَـٰتِ ذُو ٱلْعَرْشِ يُلْقِى ٱلرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَىٰ مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنذِرَ يَوْمَ ٱلتَّلاَقِ * يَوْمَ هُم بَـٰرِزُونَ لاَ يَخْفَىٰ عَلَى ٱللَّهِ مِنْهُمْ شيء }. { رفيعُ الدرجات } خبر عن مبتدأ محذوف هو ضمير اسم الجلالة في قولهفادعوا الله } غافر 14 وليس خبراً ثانياً بعد قولههُو الَّذي يُريكم آياته } غافر 13 لأن الكلام هنا في غرض مستجدّ، وحذف المسند إليه في مثله حذف اتِّبَاع للاستعمال في حذف مثله، كذا سماه السكاكي بعد أن يَجري من قبل الجملة حديثٌ عن المحذوف كقول عبد الله بن الزَّبِير أو إبراهيم بن العباس الصولي أو محمد بن سعيد الكاتب
سأَشكُر عَمْراً إِنْ تَراختْ منيتي أَيَادِيَ لَم تُمْنَنْ وإنْ هِيَ جَلَّتِ فَتًى غير محجوب الغِنى عن صديقه ولا مُظْهِرا للشكوى إذا النعل زَلّت   
و { رفيع } يجوز أن يكون صفة مشبهة. والتعريف في { الدرجات } عوض عن المضاف إليه. والتقدير رفيعةٌ درجاتُه، فلما حُول وصف ما هو من شؤونه إلى أن يكون وصفاً لذاته سلك طريق الإضافة وجُعلت الصفة المشبهة خبراً عن ضمير الجلالة وجعل فاعل الصفة مضافاً إليه، وذلك من حالات الصفة المشبهة يقال فلان حسنٌ فعلُه، ويقال فلان حسَنُ الفعل، فيؤُول قوله { رَفِيعُ الدَّرَجات } إلى صفة ذاته. و { الدرجات } مستعارة للمجد والعظمة، وجمعها إيذان بكثرة العظمات باعتبار صفات مجد الله التي لا تحصر، والمعنى أنه حقيق بإخلاص الدعاء إليه. ويجوز أن يكون { ٱلْكَـٰفِرُونَ } من أمثلة المبالغة، أي كثير رفعِ الدرجات لمن يشاء وهو معنى قوله تعالىنرفع درجات من نشاء } يوسف 76. وإضافته إلى { الدرجات } من الإِضافة إلى المفعول فيكون راجعاً إلى صفات أفعال الله تعالى.والمقصود تثبيتهم على عبادة الله مخلصين له الدين بالترغيب بالتعرض إلى رفع الله درجاتهم كقولهيرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات } في سورة المجادلة 11. و { ذُو العَرْش } خبر ثان وفيه إشارة إلى أن رفع الدرجات منه متفاوت.كما أن مخلوقاته العليا متفاوتة في العظم والشرف إلى أن تنتهي إلى العرش وهو أعلى المخلوقات كأنه قيل إن الذي رفع السماوات ورفع العرش مَاذَا تُقَدِّرون رَفعه درجات عابديه على مراتب عبادتهم وإخلاصهم. وجملة { يُلْقِي الرُّوح مِن أمْرِه } خبر ثالث، أو بدلُ بعض من جملة { رَفِيعُ الدرجات } فإن مِنْ رفع الدرجات أَنْ يرفع بعض عِباده إلى درجة النبوءة وذلك أعظم رفع الدرجات بالنسبة إلى عِباده، فبدل البعض هو هنا أهم أفراد المبدل منه.والإِلقاء حقيقته رميُ الشيء من اليد إلى الأرض، ويستعار للاعطاء إذا كان غير مترقب، وكثر هذا في القرآن، قالفألقوا إليهم القول إنكم لكاذبون وألقوا إلى الله يومئذٍ السلم } النحل 86، 87. واستعير هنا للوحي لأنه يجيء فجأة على غير ترقب كإلقاء الشيء إلى الأرض.

السابقالتالي
2 3 4