الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ ٱللَّهِ أَكْبَرُ مِن مَّقْتِكُمْ أَنفُسَكُـمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى ٱلإِيمَانِ فَتَكْفُرُونَ }

مقابلةُ سؤال الملائكةِ للمؤمنين بالنعيم الخالص يوم القيامة بما يخاطَب به المشركون يومئذٍ من التوبيخ والتنديم وما يراجِعون به من طلب العفو مؤذنة بتقدير معنى الوعد باستجابةِ دعاء الملائكة للمؤمنين، فطيُّ ذكرِ ذلك ضرب من الإِيجاز. والانتقال منه إلى بيان ما سيحل بالمشركين يومئذٍ ضرب من الأسلوب الحكيم لأن قوله { إنَّ الذين كفروا ينادون } الآيات مستأنف استئنافاً بيانياً كأنَّ سائلاً سأل عن تقبل دعاء الملائكة للمؤمنين فأجيب بأن الأهم أن يسأل عن ضد ذلك، وفي هذا الأسلوب إيماء ورمز إلى أن المهم من هذه الآيات كلها هو موعظة أهل الشرك رجوعاً إلى قولهوكذلك حقت كلمات ربك على الذين كفروا أنهم أصحاب النار } غافر 6 والمراد بــ { الذين كفروا } هنا مشركو أهل مكة، فإنهم المقصود بهذه الأخبار كما تقدم آنفاً في قولهويستغفرون للذين آمنوا } غافر 7.والمعنى أنهم يناديهم الملائكة تبليغاً عن رب العزة، قال تعالىأولئك ينادون من مكان بعيد } فصلت 44 وهو بعد عن مرتبة الجلال، أي ينادون وهم في جهنم كما دل عليه قولهفهل إلى خروج من سبيل } غافر 11.واللام في { لَمَقْتُ الله } لام القسم. والمقت شدة البغض. و { إذْ تُدْعَون } ظرف لــــ { مَقتكم أنفسكم }. و { إذ } ظرف للزمن الماضي، أي حينَ كنتم تدعون إلى الإيمان على لسان الرسول صلى الله عليه وسلم وذلك في الدنيا بقرينة { تُدعون } وجيء بالمضارع في { تُدعَون } و { تَكفرون } للدلالة على تكرر دعوتهم إلى الإِيمان وتكرر كفرهم، أي تجدده.ومعنى مقتهم أنفسهم حينئذٍ أنهم فعلوا لأنفسهم ما يُشبه المقت إذ حرموها من فضيلة الإِيمان ومحاسن شرائعه ورضُوا لأنفسهم دين الكفر بعد أن أوقظوا على ما فيه من ضلال ومَغِبَّة سوءٍ، فكان فعلهم ذلك شبيهاً بفعل المرء لبغيضه من الضر والكيد، وهذا كما يقال فلان عدو نفسه. وفي حديث سعد بن أبي وقاص عن عمر بن الخطاب أن عمر قال لنساء من قريش يسألْنَ النبي صلى الله عليه وسلم ويستكثرن، فلما دخل عمر ابتدَرْن الحجاب فقال لهن «يا عدُوَّاتتِ أنفسهن أتهبنَني ولا تهِبْنَ رسول الله صلى الله عليه وسلم.فالمقت مستعار لِقلة التدبر فيما يضر. وقد أشار إلى وجه هذه الاستعارة قوله { إذْ تُدْعون إلى الإيمان فتكفرون } فمناط الكلام هو { فتكفرون } وفي ذكر { ينادون } ما يدل على كلام محذوف تقديره أن الذين كفروا يمقتهم الله وينادَون لمقتُ الله الخ.ومعنى مقت الله بغضه إياهم وهو مجاز مرسل أطلق على المعاملة بآثار البغض من التحقير والعقاب فهو أقرب إلى حقيقة البغض لأن المراد به أثره وهو المعاملة بالنكال، وهو شائع شيوع نظائره مما يضاف إلى الله مما تستحيل حقيقته عليه، وهذا الخبر مستعمل في التوبيخ والتنديم.

السابقالتالي
2