الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ إِنَّ ٱلَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ ٱلْمَلاۤئِكَةُ ظَالِمِيۤ أَنْفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي ٱلأَرْضِ قَالْوۤاْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ ٱللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا فَأُوْلَـٰئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَآءَتْ مَصِيراً } * { إِلاَّ ٱلْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ ٱلرِّجَالِ وَٱلنِّسَآءِ وَٱلْوِلْدَانِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً } * { فَأُوْلَـٰئِكَ عَسَى ٱللَّهُ أَن يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ ٱللَّهُ عَفُوّاً غَفُوراً }

فلمّا جاء ذكر القاعدين عن الجهاد من المؤمنين بعذر وبدونه، في الآية السالفة، كان حال القاعدين عن إظهار إسلامهم من الذين عزموا عليه بمكة، أو اتّبعوه ثمّ صدّهم أهل مكة عنه وفتنوهم حتّى أرجعهوهم إلى عبادة الأصنام بعذر وبدونه، بحيث يخطر ببال السامع أن يتساءل عن مصيرهم إن هم استمرّوا على ذلك حتّى ماتوا، فجاءت هذه الآية مجيبة عمّا يجيش بنفوس السّامعين من التساؤل عن مصير أولئك، فكان موقعها استئنافاً بيانياً لسائل متردّد، ولذلك فصلت، ولذلك صدّرت بحرف التأكيد، فإنّ حالهم يوجب شكّاً في أن يكونوا ملحقين بالكفّار، كيف وهم قد ظهر ميلهم إلى الإسلام. ومنهم من دخل فيه بالفعل ثم صدّ عنه أو فتن لأجله. والموصول هنا في قوّة المعرّف بلام الجنس، وليس المراد شخصاً أو طائفة بل جنس من مات ظالماً نفسه، ولِما في الصلة من الإشعار بعلّة الحكم وهو قوله { فأولئك مأواهم جهنّم } ، أي لأنّهم ظلموا أنفسهم. ومعنى { توفّاهم } تُميتهم وتقبض أرواحهم، فالمعنى أنّ الذين يموتون ظالمي أنفسهم، فعدل عن يموتون أو يتُوفَّوْن إلى تَوفّاهم الملائكةُ ليكون وسيلة لبيان شناعة فتنتهم عند الموت. و«الملائكة» جمع أريد به الجنس، فاستوى في إفادة معنى الجنس جمعُه، كما هنا، ومُفرده كما في قوله تعالىقل يتوفّاكم مَلَك الموتِ الذي وكّل بكم } السجدة 11 فيجوز أن يكون ملك الموت الذي يقبض أرواحَ الناس واحِداً، بقوة منه تصل إلى كلّ هالك، ويجوز أن يكون لكلّ هالك ملَك يقبض روحه، وهذا أوضح، ويؤيّده قوله تعالى { إنّ الذين توفّاهم الملائكة } إلى قوله { قالوا فيم كُنتم }. و { تَوفّاهم } فعل مضي يقال توفّاه الله، وتَوفّاه ملك الموت، وإنّما لم يقرن بعلامة تأنيث فاعل الفعل، لأنّ تأنيث صيغ جموع التكسير تأنيث لفظي لا حقيقي فيجوز لَحاق تَاءِ التأنيث لفعلها، تقول غَزَتْ العربُ، وغَزَى العربُ. وظلم النفس أن يفعل أحد فِعلا يؤول إلى مضرّته، فهو ظالم لنفسه، لأنّه فعل بنفسه ما ليس من شأن العقلاء أن يفعلوه لوخامة عقباه. والظلم هو الشيء الذي لا يحقّ فعله ولا تَرضى به النفوس السليمة والشرائعُ، واشتهر إطلاق ظلم النفس في القرآن على الكفر وعلى المعصية. وقد اختُلف في المراد به في هذه الآية، فقال ابن عباس المراد به الكفر، وأنّها نزلت في قوم من أهل مكة كانوا قد أسلموا حين كان الرسول صلى الله عليه وسلم بمكة، فلمّا هاجر أقاموا مع قومهم بمكة ففتنوهم فارتدّوا، وخرجوا يوم بدر مع المشركين فكثَّروا سواد المشركين، فقُتلوا ببدر كافرين، فقال المسلمون كان أصحابنا هؤلاء مسلمين ولكنّهم أكرهوا على الكفر والخروج، فنزلت هذه الآية فيهم. رواه البخاري عن ابن عباس، قالوا وكان منهم أبو قيس بن الفاكِه، والحارث بن زمْعة، وأبو قيس بن الوليد بن المغيرة، وعلي بن أمية بن خلف، والعاص بن منبه بن الحجاج فهؤلاء قتلوا.

السابقالتالي
2 3 4 5 6