الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ وَلْيَخْشَ ٱلَّذِينَ لَوْ تَرَكُواْ مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافاً خَافُواْ عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُواْ ٱللَّهَ وَلْيَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيداً }

موعظة لكلّ من أُمر أو نُهي أو حُذر أو رُغب في الآي السابقة، في شأن أموال اليتامى وأموال الضعاف من النساء والصبيان، فابتدِئَتْ الموعظة بالأمر بخشية الله تعالى أي خشية عذابه، ثم أعقب بإثارة شفقة الآباء على ذرّيتهم بأن يُنَزِّلوا أنفسهم منزلة الموروثين، الذين اعتَدَوا هُمْ على أموالهم، ويُنَزّلوا ذرّياتهم منزلة الذريّة الذين أكلوا هُم حقوقهم، وهذه الموعظة مبنية على قِيَاس قول النبي صلى الله عليه وسلم " لا يؤمن أحدكم حتى يُحِبّ لأخيه ما يحبّ لنفسه " وزاد إثارة الشفقة التنبيهَ على أنّ المعتدي عليهم خلق ضعاف بقوله { ضعافاً } ، ثم أعقب بالرجوع إلى الغرض المنتقل منه وهو حفظ أموال اليتامى، بالتهديد على أكله بعذاب الآخرة بعد التهديد بسوء الحال في الدنيا. فيفهم من الكلام تعريض بالتهديد بأنّ نصيب أبناءهم مثلُ مَا فعلوه بأبناء غيرهم والأظهر أنّ مفعول يخش حذف لتذهب نفس السامع في تقديره كلّ مذهب محتمل، فينظر كلّ سامع بحسب الأهم عنده ممّا يخشاه أن يصيب ذرّيّته. وجملة { لو تركوا } إلى { خافوا عليهم } صلة الموصول، وجملة { خافوا عليهم } جواب لو. وجيء بالموصول لأنّ الصلة لمّا كانت وصفا مفروضاً حسُن التعريف بها إذ المقصود تعريف مَن هذه حاله، وذلك كاف في التعريف للمخاطبين بالخشية إذ كلّ سامع يعرف مضمون هذه الصلة لو فرض حصولها له، إذ هي أمر يتصوّره كلّ الناس. ووجه اختيار لو هنا من بين أدوات الشرط أنّها هي الأداة الصالحة لفرض الشرط من غير تعرّض لإمكانه، فيصدق معها الشرط المتعذّر الوقوع والمستبعده والمُمْكِنُهُ فالذين بلغوا اليأس من الولادة، ولهم أولاد كبار أو لا أولاد لهم، يدخلون في فرض هذا الشرط لأنّهم لو كان لهم أولاد صغار لخافوا عليهم، والذين لهم أولاد صغار أمرُهم أظْهَر. وفعل تركوا ماض مستعمل في مقاربة حصول الحدث مجازا بعلاقة الأول، كقوله تعالىوالذين يتوفون منكم ويذرون أزواجاً وصيةٌ لأزواجهم } البقرة 240 وقوله تعالىلا يؤمنون به حتى يروا العذاب الأليم } الشعراء 201 وقول الشاعر
إلى مَلِك كادَ الجبال لفقده تَزول زوال الراسيات من الصخر   
أي وقاربت الراسيات الزوال إذ الخوف إنّما يكون عند مقاربة الموت لا بعد الموت. فالمعنى لو شارَفُوا أن يتركوا ذرّيّة ضعافاً لخافوا عليهم من أولياء السوء. والمخاطب بالأمر من يصلح له من الأصناف المتقدمة من الأوصياء، ومن الرجال الذين يحرمون النساء ميراثهن، ويحرمون صغار إخوتهم أو أبناء إخوتهم وأبناء أعمامهم من ميراث آبائهم، كلّ أولئك داخل في الأمر بالخشية، والتخويف بالموعظة، ولا يتعلّق هذا الخطاب بأصحاب الضمير في قولهفارزقوهم منه } النساء 8 لأنّ تلك الجملة وقعت كالاستطراد، ولأنّه لا علاقة لمضمونها بهذا التخويف. وفي الآية ما يبعث الناس كلّهم على أن يغضبوا للحقّ من الظلم، وأن يأخذوا على أيدي أولياء السوء، وأن يحرسوا أموال اليتامى ويبلغوا حقوق الضعفاء إليهم، لأنّهم إن أضاعوا ذلك يوشك أن يلحق أبناءهم وأموالهم مثل ذلك، وأنْ يأكل قويُّهم ضعيفهم، فإنّ اعتياد السوء ينسي الناس شناعته، ويكسب النفوس ضراوة على عمله.

السابقالتالي
2