الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ وَإِذَا جَآءَهُمْ أَمْرٌ مِّنَ ٱلأَمْنِ أَوِ ٱلْخَوْفِ أَذَاعُواْ بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى ٱلرَّسُولِ وَإِلَىٰ أُوْلِي ٱلأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ ٱلَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلاَ فَضْلُ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاَتَّبَعْتُمُ ٱلشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلاً }

عطف على جملةويقولون طاعة } النساء 81 فضمير الجمع راجع إلى الضمائر قبله، العائدة إلى المنافقين، وهو الملائم للسياق، ولا يعكّر عليه إلاّ قوله { وإلَى أولي الأمر منهم } ، وسنعلم تأويله، وقيل الضمير هذا راجع إلى فريق من ضعفة المؤمنين ممّن قلّت تجربَته وضعف جَلده، وهو المناسب لقوله { وإلى أولي الأمر منهم } بحسب الظاهر، فيكون معَاد الضمير محذوفاً من الكلام اعتماداً على قرينة حال النزول، كما في قولهحتّى توارت بالحجاب } ص 32. والكلام مسوق مساق التوبيخ للمنافقين واللوم لمن يقبل مثل تلك الإذاعة، من المسلمين الأغرار. ومعنى { جاءهم أمر } أي أخبروا به، قال امرؤ القيس
وذَلك مِنْ نَبَإ جَاءَني   
فالمجيء مجاز عرفي في سماع الأخبار، مثل نظائره. وهي بلغ، وانتهى إليه وأتاه، قال التابغة
أتأني ــــ أبيتَ اللعن ــــ أنَّكَ لُمَتَنِي   
والأمر هنا بمعنى الشيء، وهو هنا الخبر، بقرينة قوله { أذاعوا به }. ومعنى { أذاعوا } أفْشَوْا، ويتعدّى إلى الخبر بنفسه، وبالباء، يقال أذاعَه وأذاع به، فالباء لتوكيد اللصوق كما فيوامْسَحُوا برؤوسكم } المائدة 6. والمعنى إذا سمعوا خبَراً عن سَرايا المسلمين من الأمن، أي الظَّفَر الذي يوجب أمن المسلمين أو الخوف وهو ما يوجب خوف المسلمين، أي اشتداد العدوّ عليهم، بادروا بإذاعته، أو إذا سمعوا خَبراً عن الرسول ــــ عليه السلام ــــ وعن أصحابه، في تدبير أحوال المسلمين من أحوال الأمن أو الخوف، تحدّثوا بتلك الأخبار في الحالين، وأرجفوها بين الناس لقصد التثبيط عن الاستعداد، إذا جاءت أخبار أمن حتّى يؤخذ المؤمنون وهم غَارَّون، وقصد التجبين إذا جاءت أخبار الخوف، واختلاف المعَاذير للتهيئة للتخلّف عن الغزو إذا استنفروا إليه، فحذّر الله المؤمنين من مكائد هؤلاء، ونبّه هؤلاء على دخيلتهم، وقَطَع معذرتهم في كيدهم بقوله { ولو ردّوه إلى الرسول } الخ، أي لولا أنّهم يقصدون السوء لاستثبتوا الخبر من الرسول ومن أهل الرأي. وعلى القول بأنّ الضمير راجع إلى المؤمنين فالآية عتاب للمؤمنين في هذا التسرّع بالإذاعة، وأمرُهم بإنهاء الأخبار إلى الرسول وقادة الصحابة ليضعوه مواضعه ويعلّموهم محامله. وقيل كان المنافقون يختلقون الأخبار من الأمن أو الخوف، وهي مخالفة للواقع، ليظنّ المسلمون الأمْن حين الخوف فلا يأخذوا حذرهم، أو الخوفَ حين الأمن فتضطرب أمورهم وتختلّ أحوال اجتماعهم، فكان دهماء المسلمين إذا سمعوا ذلك من المنافقين راج عندهم فأذاعوا به، فتمّ للمنافقين الدست، وتمشّت المكيدة، فلامهم الله وعلّمهم أن ينهوا الأمر إلى الرسول وجلّة أصحابه قبل إشاعته ليعلموا كنه الخبر وحالَه من الصدق أو الكذب، ويأخذوا لكلّ حالة حيطتها، فيسلم المؤمنون من مكر المنافقين الذي قصدوه. وهذا بعيد من قوله { جاءهم } وعلى هذا فقوله { لَعَلِمَه } هو دليل جواب لو وعِلَّتُه، فجُعل عوضه وحذف المعلول، إذ المقصود لعلمه الذين يستنبطونه من أولي الأمر فلَبَيَّنُوه لهم على وجهه.

السابقالتالي
2