الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ ٱلَّذِينَ يَشْرُونَ ٱلْحَيَاةَ ٱلدُّنْيَا بِٱلآخِرَةِ وَمَن يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ فَيُقْتَلْ أَو يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً } * { وَمَا لَكُمْ لاَ تُقَٰتِلُونَ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ وَٱلْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ ٱلرِّجَالِ وَٱلنِّسَآءِ وَٱلْوِلْدَٰنِ ٱلَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَآ أَخْرِجْنَا مِنْ هَـٰذِهِ ٱلْقَرْيَةِ ٱلظَّالِمِ أَهْلُهَا وَٱجْعَلْ لَّنَا مِن لَّدُنْكَ وَلِيّاً وَٱجْعَلْ لَّنَا مِن لَّدُنْكَ نَصِيراً } * { ٱلَّذِينَ آمَنُواْ يُقَٰتِلُونَ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ يُقَٰتِلُونَ فِي سَبِيلِ ٱلطَّٰغُوتِ فَقَٰتِلُوۤاْ أَوْلِيَاءَ ٱلشَّيْطَٰنِ إِنَّ كَيْدَ ٱلشَّيْطَٰنِ كَانَ ضَعِيفاً }

الفاء إمّا للتفريع، تفريعِ الأمر على الآخرَ، أي فُرّع { فليقاتل } علىخُذوا حذركم فانفروا } النساء 71، أو هي فاء فصيحة، أفصحت عمّا دلّ عليه ما تقدّم من قوله { خذوا حذركم } وقولهوإنَّ منكم لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ } النساء 72 لأنّ جميع ذلك اقتضى الأمر بأخذ الحِذر، وهو مهيّء لطلب القتال والأمرِ بالنفير والإعلامِ بمن حالهم حال المتردّد المتقاعس، أي فإذا علمتم جميع ذلك، فالذين يقاتلون في سبيل الله هم الذين يشرون الحياة الدنيا بالآخرة لا كلّ أحد. { ويشرون } معناه يبيعون، لأنّ شرى مقابل اشترى، مثل باع وابتاع وأكرى واكترى، وقد تقدّم تفصيله عند قوله تعالىأولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى } في سورة البقرة 16. فالذين يشرون الحياة الدنيا هم الذين يبذلونها ويرغبون في حظّ الآخرة. وإسنادُ القتال المأمور به إلى أصحاب هذه الصلة وهي { يشرون الحياة الدنيا بالآخرة } للتنويه بفضل المقاتلين في سبيل الله، لأنّ في الصلة إيماء إلى علّة الخبر، أي يبعثهم على القتال في سبيل الله بَذْلُهم حياتهم الدنيا لِطلب الحياة الأبدية، وفضيحة أمر المبطّئين حتى يرتدعوا عن التخلّف، وحتّى يُكشف المنافقون عن دخيلتهم، فكان معنى الكلام فليقاتل في سبيل الله المؤمنون حقّاً فإنّهم يشرون الحياة الدنيا بالآخرة، ولا يفهم أحد من قوله { فليقاتل في سبيل الذين يشرون } أنّ الأمر بالقتال مختصّ بفريق دون آخر، لأنّ بذل الحياة في الحصول على ثواب الآخرة شيء غير ظاهر حتّى يعلّق التكليف به، وإنّما هو ضمائر بين العباد وربّهم، فتعيّن أنّ إسناد الأمر إلى أصحاب هذه الصلة مقصود منه الثناء على المجاهدين، وتحقير المبطَّئين، كما يقول القائل «ليس بعُشِّكِ فادرُجي». فهذا تفسير الآية بوجه لا يعتريه إشكال. ودخل في قوله { أو يغلب } أصناف الغلبة على العدوّ بقتلِهم أو أسرهم أو غنم أموالهم. وإنّما اقتصر على القتل والغلبة في قوله { فيُقتل أو يَغْلِب } ولم يزد أو يؤسر إباية من أن يذكر لهم حالة ذميمة لا يرضاها الله للمؤمنين، وهي حالة الأسر فسكت عنها لئلاّ يذكرها في معرض الترغيب وإن كان للمسلم عليها أجر عظيم أيضاً إذا بذل جهده في الحرب فعلب إذ الحرب لا تخلو من ذلك، وليس بمأمورٍ أن يلقي بيده إلى التهلكة إذا علم أنّه لا يجدي عنه الاستبسال، فإنّ من منافع الإسلام استبقاءَ رجاله لدفاع العدوّ. والخطاب في قوله { ومالكم لا تقاتلون } التفات من طريق الغيبة، وهو طريق الموصول في قوله { الذين يَشرون الحياة الدنيا بالآخرة } إلى طريق المخاطبة. ومعنى { ما لكم لا تقاتلون } ما يمنعكم من القتال، وأصل التركيب أي شيء حقّ لكم في حال كونكم لا تقاتلون، فجملة { لا تقاتلون } حال من الضمير المجرور للدلالة على ما منه الاستفهام.

السابقالتالي
2