الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيباً مِّنَ ٱلْكِتَٰبِ يُؤْمِنُونَ بِٱلْجِبْتِ وَٱلطَّٰغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ هَٰؤُلاءِ أَهْدَىٰ مِنَ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ سَبِيلاً } * { أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ لَعَنَهُمُ ٱللَّهُ وَمَن يَلْعَنِ ٱللَّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ نَصِيراً }

أعيد التعجيب من اليهود، الذين أوتوا نصيباً من الكتاب، بما هو أعجب من حالهم التي مرّ ذكرها في قولهألم تر إلى الذين أوتوا نصيباً من الكتاب يشترون الضلالة } النساء 44 فإنّ إيمانهم بالجبت والطاغوت وتصويبهم للمشركين تباعد منهم عن أصول شرعهم بمراحل شاسعة، لأنّ أوّل قواعد التوراة وأولى كلماتها العشر هي لا يكن لك آلهة أخرى أمامي، لا تصنع لك تمثالاً منحُوتاً، لا تسجد لهنّ ولا تعبدهنّ. وتقدّم بيان تركيبألم تر إلى الذين أوتوا نصيباً من الكتاب } آنفاً في سورة آل عمران 23. والجبت كلمة معرّبة من الحبشية، أي الشيطان والسحر لأنّ مادة جَــــ ــــ بَ ــــ تَ مهملة في العربية، فتعيّن أن تكون هذه الكلمة دخيلة. وقيل أصلها جبس وهو ما لا خير فيه، فأبدلت السين تاء كما أبدلت في قول علباء بن أرقم يا لَعَنَ الله بني السعْلات، عمرَو بنَ يَربوع شرار النَّات، ليسوا أعفّاء ولا أكيات، أي شرار الناس ولا بأكياس. وكما قالوا الجتّ بمعنى الجسّ. والطاغوت الأصنام كذا فسّره الجمهور هنا ونقل عن مالك بن أنس. وهو اسم يقع على الواحد والجمع فيقال للصَّنم طاغوت وللأصنام طاغوت، فهو نظير طِفْل وفُلْك. ولعلّ التزام اقترانه بلام تعريف الجنس هو الذي سوّغ إطلاقه على الواحد والجمع نظير الكتاب والكتب. ثم لمّا شاع ذلك طردوه حتّى في حالة تجرّده عن اللام، قال تعالىيريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به } النساء 60 فأفرده، وقالوالذين اجتنبوا الطاغوت أن يَعْبُدوها } الزمر 17، وقالوالذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم } البقرة 257 الخ. وهذا الاسم مشتقّ من طغى يطغو إذا تعاظم وترفّع، وأصله مصدر بوزن فَعَلوت للمبالغة، مثل رهبوت، وملكوت، ورحموت، وجبَروت، فأصله طَغَوُوت فوقع فيه قلب مكاني بتقديم لام الكلمة على عينها فصار طوغوت بوزن فَلَعُوت، والقصد من هذا القلب تأتّي إبدال الواو ألفاً بتحرّكها وانفتاح ما قبلها، وهم قد يقلبون حروف الكلمة ليتأتّى الإبدال كما قلبوا أرْءَام جمع ريم إلى آرام ليتأتى إبدال الهمزة الثانية الساكنة ألفاً بعد الأولى المفتوحة، وقد ينزّلون هذا الاسم منزلة المفرد فيجمعونه جمع تكسير على طواغيت ووزنه فعاليل، وورد في الحديث " لا تحلفوا بالطواغيت " وفي كلام ابن المسيّب في «صحيح البخاري» البَحيرة التي يْمُنع درّها للطواغيت. وقد يطلق الطاغوت على عظيم أهل الشرك كالكاهن، لأنّهم يعظّمونه لأجل أصنامهم، كما سيأتي في قوله تعالىيريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت } في هذه السورة النساء 60. والآية تشير إلى ما وقع من بعض اليهود، وفيهم كعب بن الأشرف، وحيي بن أخطب، فإنّهم بعد وقعة أحُد طمعوا أن يسعوا في استئصال المسلمين، فخرجوا إلى مكّة ليحَالفوا المشركين على قتال المسلمين، فنزل كعب عند أبي سفيان، ونزل بَقيّتهم في دور قريش، فقال لهم المشركون أنتم أهل كتاب ولعلّكم أن تكونوا أدنى إلى محمّد وأتباعه منكم إلينا فلا نَأمن مكركم فقالوا لهم إنّ عبادة الأصنام أرضى عند الله ممّا يدعو إليه محمد وأنتم أهدى سبيلاً فقال لهم المشركون فاسجدوا لآلهتنا حتّى نطمئنّ إليكم ففعلوا، ونزلت هذه الآية إعلاماً من الله لرسوله بما بيتّه اليهود وأهل مكة.

السابقالتالي
2