الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَآءُ وَمَن يُشْرِكْ بِٱللَّهِ فَقَدِ ٱفْتَرَىٰ إِثْماً عَظِيماً }

يجوز أن تكون هذه الجملة متعلقة بما قبلها من تهديد اليهود بعقاب في الدنيا، فالكلام مَسوق لترغيب اليهود في الإسلام، وإعلامهم بأنّهم بحيث يتجاوز الله عنهم عند حصول إيمانهم، ولو كان عذابُ الطمس نازلاً عليهم، فالمراد بالغفران التجاوز في الدنيا عن المؤاخذة لهم بعظم كفرهم وذنوبهم، أي يرفع العذاب عنهم. وتتضمّن الآية تهديداً للمشركين بعذاب الدنيا يحلّ بهم فلا ينفعهم الإيمان بعد حلول العذاب، كما قال تعالىفلولا كانت قرية آمنت فنفعها إيمانها إلاّ قوم يونس } يونس 98 الآية. وعلى هذا الوجه يكون حرف إنّ في موقع التعليل والتسبّب، أي آمنوا بالقرآن من قبل أن ينزل بكم العذاب، لأنّ الله يغفر ما دون الإشراك به، كقولهوما كان الله ليعذبّهم وأنت فيهم } الأنفال 33، أي ليعذّبهم عذاب الدنيا، ثم قالومالهم أن لا يعذّبهم الله } الأنفال 34، أي في الدنيا، وهو عذاب الجوع والسيف. وقولهفارتقب يوم تأتي السماء بدخان مبين يغشى الناس هذا عذاب أليم } الدخان 10، 11، أي دخانٌ عامَ المجاعة في قريش. ثم قالإنّا كاشفوا العذاب قليلاً إنّكم عائدُون يوم نبطش البطشة الكبرى إنّا منتقمون } الدخان 15، 16 أي بطشة يوم بدر أو يكون المراد بالغفران التسامح، فإنّ الإسلام قَبِل من أهل الكتابين الدخول تحت ذمَّة الإسلام دون الدخول في دين الإسلام، وذلك حكم الجزية، ولم يرض من المشركين إلاّ بالإيمان دون الجزية، لقوله تعالى { فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم } ــــ إلى قوله ــــفإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلّوا سبيلهم } التوبة 5. وقال في شأن أهل الكتابقاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يُحرّمون ما حرّم الله ورسولُه ولا يدينون دينَ الحقّ من الذين أوتوا الكتَاب حتّى يُعطوا الجزية عن يدٍ وهُم صاغرون } التوبة 29. ويجوز أن تكون الجملة مستأنَفة، وقعت اعتراضاً بين قوارع أهل الكتاب ومواعظهم، فيكون حرفُ إنَّ لتوكيد الخبر لقصد دفع احتمال المجاز أو المبالغة في الوَعيد، وهو إمّا تمهيد لما بعده لتشنيع جرم الشرك بالله ليكون تمهيداً لتشنيع حال الذين فَضَّلوا الشرك على الإيمان، وإظهاراً لمقدار التعجيب من شأنهم الآتي في قولهألم تر إلى الذين أوتوا نصيباً من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت ويقولون للذين كفروا هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلاً } النساء 51، أي فكيف ترضون بحال من لا يرضى الله عنه. والمغفرة على هذا الوجه يصحّ حملها على معنى التجاوز الدنيوي، وعلى معنى التجاوز في الآخرة على وجه الإجمال. وإمّا أن يكون استئنافَ تعليمِ حكم في مغفرة ذنوب العصاة ابتدىء بمُحْكَم وهو قوله { لا يغفر أن يشرك به } ، وذُيِّل بمتشابه وهو قوله { ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء } فالمغفرة مراد منها التجاوز في الآخرة.

السابقالتالي
2 3 4