الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ يَا أَيُّهَآ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَٰبَ ءَامِنُواْ بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقاً لِّمَا مَعَكُمْ مِّن قَبْلِ أَن نَّطْمِسَ وُجُوهاً فَنَرُدَّهَا عَلَىٰ أَدْبَارِهَآ أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّآ أَصْحَٰبَ ٱلسَّبْتِ وَكَانَ أَمْرُ ٱللَّهِ مَفْعُولاً }

أقبل على خطاب أهل الكتاب الذين أريد بهم اليهود بعد أن ذكر من عجائب ضلالهم، وإقامة الحجّة عليهم، ما فيه وازع لهم لو كان بهم وَزْع، وكذلك شأن القرآن أن لا يفلت فرصة تَعِنُّ من فُرَص الموعظة والهدى إلاّ انتهزها، وكذلك شأن الناصحين من الحكماء والخطباء أن يتوسّموا أحوال تأثّر نفوس المخاطبين ومظانّ ارعوائها عن الباطل، وتبصّرها في الحق، فينجدوها حينئذٍ بقوارع الموعظة والإرشاد، كما أشار إليه الحريري في المقامة 11 إذ قال «فلَمَّا ألْحَدُوا المَيْت، وفَاتَ قولُ لَيْت، أشْرَفَ شَيْخ من رِبَاوَة، متَأبِّطاً لِهِرَاوة، فقال لِمِثْلِ هذا فليعمل العاملون» الخ، لذلك جيء بقوله { يا أيّها الذين أوتوا الكتاب آمنوا بما نّزلنا مصدّقاً لما معكم } الآية ــــ عقب ما تقدّم ــــ. وهذا موجب اختلاف الصلة هنا عن الصلة في قولهألم تر إلى الذين أوتوا نصيباً من الكتاب } آل عمران 23 لأنّ ذلك جاء في مقام التعجيب والتوبيخ فناسبته صلة مؤذنة بتهوين شأن علمهم بما أوتوه من الكتاب، وما هنا جاء في مقام الترغيب فناسبته صلة تؤذن بأنّهم شُرّفوا بإيتاء التوراة لتثير هممهم للاتّسام بميسم الراسخين في جريان أعمالهم على وفق ما يناسب ذلك، وليس بين الصلتين اختلاف في الواقع لأنّهم أوتوا الكتاب كلّه حقيقة باعتبار كونه بين أيديهم، وأوتوا نصيباً منه باعتبار جريان أعمالهم على خلاف ما جاء به كتابهم، فالذي لم يعملوا به منه كأنّهم لم يُؤتَوْه. وجيء بالصلتين في قوله { بما نزلنا } وقوله «بما معكم» دون الإسمين العلمين، وهما القرآن والتوراة لما في قوله { بما نزلنا } من التذكير بعظم شأن القرآن أنّه منزل بإنزال الله، ولما في قوله { لما معكم } من التعريض بهم في أنّ التوراة كتاب مستصحب عندهم لا يعلمون منه حقّ علمه ولا يعملون بما فيه، على حدّ قولهكمثَل الحمار يحمل أسفاراً } الجمعة 5. وقوله { من قبل أن نطمس وجوهاً } تهديد أو وعيد، ومعنى { من قبل أن نطمس } أي آمنِوا في زمن يبتدىء من قبل الطمس، أي من قبل زمن الطمس على الوجوه، وهذا تهديد بأن يحلّ بهم أمر عظيم، وهو يحتمل الحمل على حقيقة الطمس بأن يسلّط الله عليهم ما يفسد به محيَّاهم فإنّ قدرة الله صالحة لذلك، ويحتمل أن يكون الطمس مجازاً على إزالة ما به كمال الإنسان من استقامة المدارك فإنّ الوجوه مجامع الحواسّ. والتهديد لا يقتضي وقوع المهدّد به، وفي الحديث " أمَا يخشَى الذي يرفع رأسه قبلَ الإمام أن يَجعل الله وجهه وجه حمار " وأصْل الطمس إزالة الآثار الماثلة. قال كعب
عُرْضَتُها طَامِسُ الأعلام مَجْهُولُ   
وقد يطلق الطمس مجازاً على إبطال خصائص الشيء المألوفة منه. ومنه طمس القلوب أي إبطال آثار التميّز والمعرفة منها.

السابقالتالي
2