الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ مِّنَ ٱلَّذِينَ هَادُواْ يُحَرِّفُونَ ٱلْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَٱسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَٰعِنَا لَيّاً بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِي ٱلدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَٱسْمَعْ وَٱنْظُرْنَا لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِن لَّعَنَهُمُ ٱللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً }

يجوز أن يكون هذا كلاماً مستأنفاً. و { مِنْ } تبعيضية، وهي خبر لمبتدأ محذوف دلّت عليه صفته وهي جملة { يحرّفون } والتقدير قوم يحرّفون الكلَم. وحَذْفُ المبتدأ في مثل هذا شائع في كلام العرب اجتزاء بالصفة عن الموصوف وذلك إذا كان المبتدأ موصوفاً بجملة أوْ ظرف، وكان بعضَ اسم مجرور بحرف { من } ، وذلك الاسم مقدّم على المبتدإ. ومن كلمات العرب المأثورة قولهم «مِنَّا ظعنَ ومنّا أقام» أي منّا فريق ظعن ومنّا فريق أقام. ومنه قول ذي الرمّة
فظَلّوا ومنهم دَمْعُهُ غالبٌ له وآخرُ يذري دمْعة العين بالهَمْل   
أي ومنهم فريق، بدليل قوله في العطف وآخر. وقولُ تميم بن مُقْبِل
ومَا الدَّهْر إلاّ تَارتان فمنهمَا أمُوتُ وأخْرى أبتغي العَيشَ أكْدَح   
وقد دلّ ضمير الجمع في قوله { يحرّفون } أنّ هذا صنيع فريق منهم، وقد قيل إنّ المراد به رفاعة بن زيد بن التَّابوت من اليهود، ولعلّ قائل هذا يعني أنّه من جملة هؤلاء الفريق، إذ لا يجوز أن يكون المراد واحداً ويؤتى بضمير الجماعة، وليس المقام مقام إخفاء حتّى يكون على حدّ قوله عليه السلام " ما بال أقوام يشترطون " الخ. ويجوز أن يكون { من الذين هادوا } صفة للذين أوتوا نصيباً من الكتاب، وتكون { مِن } بيانيّة أي هم الذين هادوا، فَتكون جملة { يحرّفون } حالاً من قوله { الذين هادوا }. وعلى الوجهين فقد أثبتت لهم أوصاف التحريف والضلالة ومحبّة ضلال المسلمين. والتحريف الميل بالشيء إلى الحرف وهو جانب الشيء وحافته، وسيأتي عند قوله تعالىيحرفون الكلم عن مواضعه } في سورة المائدة 13، وهو هنا مستعمل في الميل عن سواء المعنى وصريحه إلى التأويل الباطل، كما يقال تنكَّب عن الصراط، وعن الطريق، إذا أخطأ الصواب وصار إلى سوء الفهم أو التضليل، فهو على هذا تحريفُ مراد الله في التوراة إلى تأويلات باطلة، كما يفعل أهل الأهواء في تحريف معاني القرآن بالتأويلات الفاسدة. ويجوز أن يكون التحريف مشقّاً من الحرف وهو الكلمة والكتابة، فيكون مراداً به تغيير كلمات التوراة وتبديلها بكلمات أخرى لتُوافِق أهواء أهل الشهوات في تأييد ما هم عليه من فاسد الأعمال. والظاهر أنّ كلا الأمرين قد ارتكبه اليهود في كتابهم. وما ينقل عن ابن عبّاس أنّ التحريف فساد التأويل ولا يعمد قوم على تغيير كتابهم، ناظرٌ إلى غالب أحوالهم، فعلى الاحتمال الأول يَكون استعمال { عن } في قوله { عن مواضعه } مجازاً، ولا مجاوزة ولا مواضِعَ، وعلى الثاني يكون حقيقة إذ التحريف حينئذٍ نقل وإزالة. وقوله { ويقولون } عطف على { يحرّفون } ذُكر سوء أفعالهم وسوء أقوالهم، وهي أقوالهم التي يواجهون بها الرسول ــــ عليه الصلاة والسلام ــــ يقولون سمِعْنا دعوتَك وعصيناك، وذلك إظهار لتمسّكهم بدينهم ليزول طمع الرسول في إيمانهم، ولذلك لم يَرَوا في قولهم هذا أذى للرسول فأعقبوه بقولهم له { واسمع غير مسمع } إظهار للتأدب معه.

السابقالتالي
2 3