الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ يَا أَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ ٱلصَّلَٰوةَ وَأَنْتُمْ سُكَٰرَىٰ حَتَّىٰ تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ وَلاَ جُنُباً إِلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّىٰ تَغْتَسِلُواْ وَإِنْ كُنْتُمْ مَّرْضَىٰ أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ أَوْ جَآءَ أَحَدٌ مِّنْكُمْ مِّن ٱلْغَآئِطِ أَوْ لَٰمَسْتُمُ ٱلنِّسَآءَ فَلَمْ تَجِدُواْ مَآءً فَتَيَمَّمُواْ صَعِيداً طَيِّباً فَٱمْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَفُوّاً غَفُوراً }

هذه الآية استئناف لبيان حكمين يتعلّقان بالصلاة، دعا إلى نزولها عقب الآيات الماضية أنّه آن الأوان لتشريع هذا الحكم في الخمر حينئذ، وإلى قَرنه بحكم مقرّر يتعلّق بالصلاة أيضاً. ويظهر أنّ سبب نزولها طرأ في أثناء نزول الآيات التي قبلها والتي بعدها، فوقعت في موقعِ وقت نزولها وجاءت كالمعترضة بين تلك الآيات. تضمّنت حكماً أوَّلَ يتعلّق بالصلاة ابتداء، وهو مقصود في ذاته أيضاً بحسب الغاية، وهو قوله { لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى } ، ذلك أنّ الخمر كانت حَلالا لم يحرّمها الله تعالى، فبقيت على الإباحة الأصلية، وفي المسلمين من يشربها. ونزل قوله تعالىيسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس } البقرة 219 في أول مدّة الهجرة فقال فريق من المسلمين نحن نشربها لمنافعها لا لإثْمها، وقد علموا أنّ المراد من الإثم الحرج والمضرّة والمفسدة، وتلك الآية كانت إيذانا لهم بأنّ الخمر يوشك أن تكون حراماً لأنّ ما يشتمل على الإثم مُتّصف بوصف مناسب للتحريم، ولكن الله أبقى إباحتها رحمة لهم في معتادهم، مع تهيئة النفوس إلى قبول تحريمها، فحدث بعد ثلاث سنين ما رواه الترمذي عن علي بن أبي طالب قال صنع لنا عبد الرحمٰن بن عوف طعاماً فدعانا وسقانا خمراً وحضرت الصلاة فقدّموني فقرأتُ قل يأيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون ونحن نعبد ما تعبدون، فأنزل الله تعالى { يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى }. قال أبو عيسى هذا حديث حسن صحيح. والقرب هنا مستعمل في معناه المجازي وهو التلبّس بالفعل، لأنّ قَرُب حقيقة في الدنوّ من المكان أو الذات يقال قرب منه ــــ بضم الراء ــــ وقرِبه ــــ بكسر الراء ــــ وهما بمعنى، ومن الناس من زعم أنّ مكسور الراء للقرب المجازي خاصّة، ولا يصحّ. وإنّما اختير هذا الفعل دون لا تُصَلُّوا ونحوه للإشارة إلى أنّ تلك حالة منافية للصلاة، وصاحبُها جدير بالابتعاد عن أفضل عمل في الإسلام، ومن هنا كانت مؤذنة بتغيّر شأن الخمر، والتنفير منها، لأنّ المخاطبين يومئذ هم أكمل الناس إيماناً وأعلقهم بالصلاة، فلا يرمُقون شيئاً يمنعهم من الصلاة إلاّ بعَين الاحتقار. ومن المفسّرين مَن تأوّل الصلاة هنا بالمسجد من إطلاق اسم الحالّ على المحلّ كما في قوله تعالىوصلوات ومساجد } الحج 40، ونقل عن ابن عباس، وابن مسعود، والحسن قالوا كان جماعة من الصحابة يشربون الخمر ثم يأتون المسجد للصلاة مع رسول الله فنهاهم الله عن ذلك ولا يخفى بعده ومخالفته لمشهور الآثار. وقوله { حتى تعلموا ما تقولون } غاية للنهي وإيماء إلى علّته، واكتفى بقوله تقولون عن { تفعلون } لظهور أنّ ذلك الحدّ من السكر قد يفضي إلى اختلال أعمال الصلاة، إذ العمل يسرع إليه الاختلال باختلال العقل قبل اختلال القول.

السابقالتالي
2 3 4 5 6 7 8 9