الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَىٰ هَـٰؤُلاۤءِ شَهِيداً } * { يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَعَصَوُاْ ٱلرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّىٰ بِهِمُ ٱلأَرْضُ وَلاَ يَكْتُمُونَ ٱللَّهَ حَدِيثاً }

الفاء يجوز أن تكون فاء فصيحة تدلّ على شرط مقدّر نشأ عن الوعيد في قولهوأعتدنا للكافرين عذاباً مهيناً } النساء 37 وقولهفساء قريناً } النساء 38 وعن التوبيخ في قولهوماذا عليهم } النساء 39 وعن الوعد في قولهإن الله لا يظلم مثقال ذرة } النساء 40 الآية، والتقدير إذا أيقنت بذلك فكيفَ حال كلّ أولئك إذا جاء الشهداء وظهر موجَب الشهادة على العمل الصالِح وعلى العمل السيّىء، وعلى هذا فليس ضميرُ بكَ إضماراً في مقام الإظهار، ويجوز أن تكون الفاء للتفريع على قولهإن الله لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها } النساء 40، أي يتفرّع عن ذلك سؤال عن حال الناس إذا جئنا من كلّ أمة بشهيد فالناسُ بين مستبشر ومتحسّر، وعلى هذا فضمير { بك } واقع موقع الاسم الظاهر لأنّ مقتضَى هذا أن يكون الكلام مسوقاً لجميع الأمّة، فيقتضي أن يقال وجئنا بالرَّسُول عليهم شهيداً، فعُدل إلى الخطاب تشريفاً للرسول صلى الله عليه وسلم بعزّ الحُضور والإقبال عليه. والحالة التي دلّ عليها الاستفهام المستعمل في التعجيب تؤذن بحالة مهولة للمشركين وتنادي على حيرتهم ومحاولتهم التملّص من العقاب بسلوك طريق إنكار أن يكونوا أنذروا ممّا دلّ عليه مجيء شهيد عليهم، ولذلك حذف المبتدأ المستفهم عنه ويقدّر بنحو كيف أولئك، أو كيف المَشْهَد، ولا يقدّر بكيف حالهم خاصّة، إذ هي أحوال كثيرة ما منها إلاّ يزيده حالُ ضدّه وضوحاً، فالناجي يزداد سروراً بمشاهدة حال ضدّه، والموبق يزداد تحسّرا بمشاهدة حال ضدّه، والكلّ يقوى يقينه بما حصل له بشهادة الصادقين له أو عليه، ولذلك لمّا ذكر الشهيد لم يذكر معه مُتعلِّقه بعلَى أو اللام ليعمّ الأمرين. والاستفهام مستعمل في لازم معناه من التعجيب، وقد تقدّم نظيره عند قوله تعالىفكيف إذا جمعناهم } في سورة آل عمران 25. وإذا ظرف للمستقبل مضاف إلى جملة { جئنا } أي زمان إتياننا بشهيد. ومضمون الجملة معلوم من آيات أخرى تقدّم نزولها مثلُ آية سورة النحل 89ويوم نبعث في كل أمة شهيداً عليهم من أنفسهم وجئنا بك شهيداً على هؤلاء } فلذلك صلحت لأن يتعرّف اسم الزَّمان بإضافته إلى تلك الجملة، والظرف معمول لكيف لما فيها من معنى الفعل وهو معنى التعجيب، كما انتصب بمعنى التلهّف في قول أبي الطمْحان
وقبْل غدٍ يَا لهفَ قلبي من غَدٍ إذا رَاح أصحابي ولستُ برائح   
والمجروران في قوله من كل أمة } وقوله { بشهيد } يتعلّقان بــــ جئنا. وقد تقدّم الكلام مختصراً على نظيره في قوله تعالىفكيف إذا جمعناهم ليوم لا ريب فيه } آل عمران 25. وشهيد كلّ أمّة هو رسولها، بقرينة قوله { وجئنا بك على هؤلاء شهيداً }. و { هؤلاء } إشارة إلى الذين دعاهم النبي صلى الله عليه وسلم لحضورهم في ذهن السامع عند سماعه اسم الإشارة، وأصل الإشارة يكون إلى مشاهد في الوجود أو منزّل منزلتَه، وقد اصطلح القرآن على إطلاق إشارة هؤلاء مراداً بها المشركون، وهذا معنى ألهمنا إليه، استقريْناه فكان مطابقاً.

السابقالتالي
2 3