الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ وَٱعْبُدُواْ ٱللَّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً وَبِٱلْوَٰلِدَيْنِ إِحْسَاناً وَبِذِي ٱلْقُرْبَىٰ وَٱلْيَتَٰمَىٰ وَٱلْمَسَٰكِينِ وَٱلْجَارِ ذِي ٱلْقُرْبَىٰ وَٱلْجَارِ ٱلْجُنُبِ وَٱلصَّاحِبِ بِٱلجَنْبِ وَٱبْنِ ٱلسَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَٰنُكُمْ إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالاً فَخُوراً }

عطف تشريع يختصّ بالمعاملة مع ذوي القربى والضعفاء، وقُدّم له الأمرُ بعبادة الله تعالى وعدمِ الإشراك على وجه الإدماج، للاهتمام بهذا الأمر وأنّه أحقّ ما يتوخّاه المسلم، تجديداً لمعنى التوحيد في نفوس المسلمين كما قُدّم لذلك في طالع السورة بقولهاتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة } النساء 1. والمناسبة هي ما أريد جمعه في هذه السورة من أحكام أواصر القرابة في النسب والدين والمخالطة. والخطاب للمؤمنين، قُدّم الأمر بالعبادة على النهي عن الإشراك، لأنّهم قد تقرّر نفي الشرك بينهم وأريد منهم دوام العبادة لله، والاستزادة منها، ونُهُوا عن الشرك تحذيراً ممّا كانوا عليه في الجاهلية. ومجموع الجملتين في قوة صيغة حصْر إذ مفاده اعبدوا الله ولا تعبدوا غيره فاشتمل على معنى إثبات ونفي، كأنّه قيل لا تعبدوا إلاّ الله. والعدول عن طريق القصر في مثل هذا طريقة عربية جاء عليها قول السموأل، أو عبدِ الملك بن عبد الرحيم الحَارثي
تَسيلُ على حَدّ الظُّبَاتِ نُفُوسُنا وليستْ على غَيْرِ الظُّبَات تَسيل   
وإنّما يصار إليها عندما يكون الغرض الأول هو طرف الإثبات، ثم يقصد بعد ذلك نفي الحكم عمّا عدا المثبت له، لأنّه إذا جيء بالقصر كان المقصد الأوّل هو نفي الحكم عمّا عدا المذكور وذلك غير مقتضَى المقام هنا، ولأجل ذلك لمّا خوطب بنو إسرائيل بنظير هذه الآية خوطبوا بطريقة القصر في قولهوإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تبعدون إلاّ الله وبالوالدين إحساناً } البقرة 83 الآية، لأنّ المقصود الأوّل إيقاظهم إلى إبطال عبادة غير الله، لأنّهم قالوا لموسى «اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة» ولأنّهم عبدوا العجل في مدّة مناجاة موسى ربَّه، فأخذ عليهم الميثاق بالنهي عن عبادة غير الله. وكذلك البيت فإنّ الغرض الأهمّ هو التمدّح بأنّهم يُقتلون في الحرب، فتزهق نفوسهم بالسيوف، ثم بدا له فأعقبه بأنّ ذلك شنشنة فيهم لا تتخلّف ولا مبالغةَ فيها. و { شيئاً } منصوب على المفعولية لــــتُشركوا أي لا تجعلوا شريكاً شيئاً ممّا يعبد كقولهولن نشرك بربنا أحداً } الجن 2 ويجوز انتصابه على المصدرية للتأكيد، أي شيئاً من الإشراك ولو ضعيفاً كقولهفلن يضروك شيئاً } المائدة 42. وقوله { وبالوالدين إحسانا } اهتمام بشأن الوالدين إذ جعل الأمر بالإحسان إليهما عقب الأمر بالعبادة، كقولهأن اشكر لى ولوالديك } لقمان 14، وقولهيا بني لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم ووصينا الإنسان بوالديه } لقمان 13، 14، ولذا قدّم معمول إحساناً عليه تقديماً للاهتمام إذ لا معنى للحصر هنا لأنّ الإحسان مكتوب على كلّ شيء، ووقع المصدر موقع الفعل. وإنّما عدّي الإحسان بالباء لتضمينه معنى البرّ. وشاعت تعديته بالباء في القرآن في مثل هذا. وعندي أنّ الإحسان إنّما يعدّى بالباء إذا أريد به الإحسان المتعلّق بمعاملة الذات وتوقيرها وإكرامها، وهو معنى البرّ ولذلك جاء «وقد أحسن بي إذ أخرجني من السجن» وإذا أريد به إيصال النفع المالي عُديّ بإلى، تقول أحْسَنَ إلى فلان، إذا وصله بمال ونحوه.

السابقالتالي
2 3