الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَٱبْعَثُواْ حَكَماً مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِّنْ أَهْلِهَآ إِن يُرِيدَآ إِصْلَٰحاً يُوَفِّقِ ٱللَّهُ بَيْنَهُمَآ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَلِيماً خَبِيراً }

عطف على جملة " واللاتي تخافون نشوزهن " النساء 34 وهذا حكم أحوال أخرى تعرض بين الزوجين، وهي أحوال الشقاق من مخاصمة ومغاضبة وعصيان، ونحو ذلك من أسباب الشقاق، أي دون نشوز من المرأة. والمخاطب هنا وُلاَة الأمور لا محالة، وذلك يرجّح أن يكونوا هم المخاطبين في الآية التي قبلها. والشِّقَاق مصدرٌ كَالمُشَاقّة، وهو مشتقّ من الشِّق ــــ بكسر الشين ــــ أي الناحية. لأنّ كلّ واحد يصير في ناحية، على طريقة التخييل، كما قالوا في اشتقاق العدوّ إنّه مشتقّ من عدوة الوادي. وعندي أنّه مشتقّ من الشَّقّ ــــ بفتح الشين ــــ وهو الصدع والتفرّع، ومنه قولهم شقّ عصا الطاعة، والخلاف شقاق. وتقدّم في سورة البقرة 137 عند قوله تعالىوإن تولوا فإنما هم في شقاق } وأضاف الشقاق إلى بين. إمّا لإخراج لفظ بين عن الظرفية إلى معنى البعد الذي يتباعده الشيئان، أي شقاقَ تباعد، أي تجَاف، وإمّا على وجه التوسّع، كقوله { بل مكر اليل } وقول الشاعر
يا سارق الليلة أهلَ الدار   
ومن يقول بوقوع الإضافة على تقدير في يجعل هذا شاهداً له كقولههذا فراق بيني وبينك } الكهف 78، والعرب يتوسّعون في هذا الظرف كثيراً، وفي القرآن من ذلك شيء كثير، ومنه قولهلقد تقطع بينكم } الأنعام 94 في قراءة الرفع. وضمير { بينهما } عائد إلى الزوجين المفهومين من سياق الكلام ابتداء من قولهالرجال قوامون على النساء } النساء 4. والحكم ــــ بفتحتين ــــ الحاكم الذي يُرضى للحكومة بغير ولاية سابقة، وهو صفة مشبّهة مشتقّة من قولهم حكّموه فحكُم، وهو اسم قديم في العربية، كانوا لا ينصبون القضاة، ولا يتحاكمون إلاّ إلى السيف، ولكنّهم قد يرضون بأحد عقلائهم يجعلونه حكماً في بعض حوادثهم، وقد تحاكم عامر بن الطُّفيل وعلقمة بن عُلاَثَةَ لدى هَرِم بن سنان العبسي، وهي المحاكمة التي ذكرها الأعشى في قصيدته الرائية القائل فيها
عَلْقَمَ ما أنتَ إلى عامر الناقضِ الأوتارِ والواتر   
وتحاكم أبناء نزار بن معدّ بن عدنان إلى الأفعى الجُرهمي، كما تقدّم في هذه السورة. والضميران في قوله { من أهله } ــــ و { من أهلها } عائدان على مفهومين من الكلام وهما الزوج والزوجة، واشترط في الحكمين أن يكون أحدهما من أهل الرجل والآخر من أهل المرأة ليكونا أعلم بدخلية أمرهما وأبصر في شأن ما يرجى من حالهما، ومعلوم أنّه يشترط فيهما الصفات التي تخوّلهما الحكم في الخلاف بين الزوجين. قال ملك إذا تعذّر وجود حكمين من أهلهما فيبعث من الأجانب، قال ابن الفرس «فإذا بعث الحاكم أجنبيّين مع وجود الأهل فيشبه أن يقال ينتقض الحكم لمخالفة النصّ، ويشبه أن يقال ماض بمنزلة ما لو تحاكموا إليهما». قلت والوجه الأوّل أظهر. وعند الشافعية كونهما من أهلهما مستحبّ فلو بعثا من الأجانب مع وجود الأقارب صحّ.

السابقالتالي
2