الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ يُرِيدُ ٱللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَٱللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ }

تذييل يقصد منه استئناس المؤمنين واستنزال نفوسهم إلى امتثال الأحكام المتقدّمة من أوّل السورة إلى هنا، فإنّها أحكام جمّة وأوامر ونواه تفضي إلى خلع عوائدَ ألفوها، وصرفِهم عن شهوات استباحوها، كما أشار إليه قوله بعد هذاويريد الذين يتبعون الشهوات } النساء 27، أي الاسترسال على ما كانوا عليه في الجاهلية، فأعقب ذلك ببيان أنّ في ذلك بيانا وهُدى. حتّى لا تكون شريعة هذه الأمّة دون شرائع الأمم التي قبلها، بل تفوقُها في انتظام أحوالها، فكان هذا كالاعتذار على ما ذكر من المحرّمات. فقوله { يريد الله ليبين لكم } تعليل لتفصيل الأحكام في مواقع الشبهات كي لا يضلّوا كما ضلّ من قبلهم، ففيه أنّ هذه الشريعة أهدى ممّا قبلها. وقوله { ويهديكم سنن الذين من قبلكم } بَيان لقصدِ إلحاق هذه الأمّة بمزايا الأمم التي قبلها. والإرادة القصد والعزم على العمل، وتطلق على الصفة الإلهيّة التي تخصّص الممكن ببعض ما يجوز عليه. والامتنانُ بما شرعه الله للمسلمين من توضيح الأحكام قد حصلت إرادته فيما مضى، وإنّا عُبّر بصيغة المضارع هنا للدلالة على تجدّد البيان واستمراره، فإنّ هذه التشريعات دائمة مستمرّة تكون بيانا للمخاطبين ولمن جاء بعدهم، وللدلالة على أنّ الله يُبقي بعدها بياناً متعاقباً. وقوله { يريد الله ليبين لكم } انتصب فعل يبيّنَ بأنْ المصدرية محذوفة، والمصدر المنسبك مفعول يريد، أي يريد الله البيانَ لكم والهُدى والتوبةَ، فكانَ أصل الاستعمال ذكر أنْ المصدرية، ولذلك فاللام هنا لتوكيد معنى الفعل الذي قبلها، وقد شاعت زيادة هذه اللاّم بعد مادّة الإرادة وبعد مادّة الأمر معاقِبة لأن المصدرية. تقول، أريد أن تفعل وأريد لِتَفْعَل، وقال تعالىيريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم } التوبة 32 وقاليريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم } الصف 8 وقالوأمرت أن أسلم لرب العالمين } غافر 66 وقالوأمرت لأعدل بينكم } الشورى 15 فإذا جاؤوا باللاّم أشبهت لام التعليل فقدّروا أنْ بعد اللام المؤكّدة كما قد روها بعد لاَم كي لأنّها أشبهتها في الصورة، ولذلك قال الفرّاء اللام نائبة عن أن المصدرية. وإلى هذه الطريقة مال صاحب «الكشاف». وقال سيبويه هي لام التعليل أي لام كي، وأنّ ما بعدها علّة، ومفعولَ الفعل الذي قبلها محذوف يقدّر بالقرينة، أي يريد الله التحليل والتحريم ليبيّن. ومنهم من قرّر قول سيبويه بأنّ المفعول المحذوف دلّ عليه التعليل المذكور فيقدّر يريد الله البيانَ ليبيّن، فيكون الكلام مبالغة بجعل العلّة نفس المعلّل. وقال الخليل، وسيبويه في رواية عنه اللاّم ظَرف مستقرّ هو خبر عن الفعل السابق، وذلك الفعلُ مقدّر بالمصدر دون سابك على حدّ «تسمع بالمعيدي خيرٌ من أن تراه» أي إرادة الله كائنة للبيان، ولعلّ الكلام عندهم محمول على المبالغة كأنّ إرادة الله انحصرت في ذلك.

السابقالتالي
2